الجمعة، 1 أغسطس 2008

نشأة المسرح عند الإغريق

1-الأعياد

ا- ديونوسوس

لم تكن العروض المسرحية الأغريقية القديمة تقدم بشكل دائم كما يحدث اليوم بل كانت تقدم فى إطار الأحتفالات الدينية المحددة التى تقع على فترات متباعدة . فقد كان العرض المسرحى جزء من احتفال رسمى مقدس . نشأ المسرح كباقى الفنون الأخرى فى أحضان الدين يظهر جلياً ذلك فى ارتباط المسرح بالمعبد فقد كان يُقام بجواره و نجد فى وسط الأوركسترا مذبحاً لتقديم الأضاحى للإلة ديونوسوس قبل و بعد الإحتفالية الدينية كما ظهر فى مسارح أثينا.

كانت العروض المسرحية تُقدم مرتين فى العام و هى الأيام المُخصصة لأعياد الإلة ديونوسوس . و كان يشرف عليها الإلة بنفسة و ذلك ينقل الكاهن تمثال الإلة إلى المسرح و كان له مقعد و سط مقاعد الشرف προεδρια فى الصف الأول. يؤكد ذلك أن المسرح كان دوراً للعبادة أكثر من كونه مكاناً مُخصصاً لتقديم العروض المسرحية. فقد اكتسب المسرح قداسة تماثل قداسة المعبد.

لعب الدين دور هام فى حياة الأثينيين فالدين عبارة عن مجموعة من العقائد و التقاليد التى يؤمن بها الناس دون أن يفهموا اصلها . لمس شعراء أثينا تأثير الدين فى نفوس الناس فجعلوا ابطال مسرحياتهم من الآلهة و ينسبوا إليهم أهم الأدوار و جعلوهم يتحكمون فى مصائر البشر . فكان ايسخولوس يشيد بيهم دائماً و يتغنى بعدلهم و يمجد سلطانهم . فزيوس عنده هو الإله الأكبر العادل الذى لا يظلم احد.و القاهر لكل عنيد جبار , سوفوكليس عاش فى عصر تحررت فيه العقول على يد الفلاسفة الذين علموهم كيف يتأملون فى ظواهر الكون و ينبذون التقاليد و المعتقدات البالية التى كان يؤمن بها أهل أثينا. هكذا مرت أثينا بفترة اهتزاز للعادات و العقائد المتوارثة.

فالإنسان أصبح يتحكم فى مصيره , ويختار بنفسه و يقارن الخير بالشر ثم يضرب ضربته , و يُحرز النصر , و ُيرضى السماء , لكنه إذا لم يترو , و تبع هواه فشل و أثار غضبها , لذا كان دور الآلهة فى مسرحيات سوفوكليس دور المرشد الذى ينصح الإنسان و لا يفرض عليه رأياً معيناً أو فكرة بذاتها. ثم تطورت الحياة الفكرية تطوراً شديداً , و ارتقت رقياً عظيما فى عصر يوريبيديس الذى آمن بالعقل وحده , و خرج على كافة التقاليد و سخر من المحافظين , و رأى أن الإنسان لا تربطه بالآلهة أية رابطة لأنه سيد نفسه يتصرف كيفما يشاء فى غير حاجة إلى مرشد أو دليل لأنه لا يعترف بشىء سوى العقل يحكمه و يهتدى بهديه .

و لم تقتصر العبادة اليونانية على تقديس الآلهة و إجلالهم , بل كان لها مظاهر أخرى أهمها الطقوس الدينية . و كانت تقيمها طوائف خاصة , تتمسك بمبادىء معينة , و تدين بتعاليم لا يطَّلع عليها إنسان قط , و لا يباح بكنهها لأحد . و يقال أن أيسخولوس قد حوكم لأنه أفشى أسرار الطائفة التى كان ينتمى إليها . و أهم هذه العبادات " أسرار أليوسيس" التى كانت تقام تكريماً لأبوللون و ديميترا ، ثم أصبحت تقام لهما و لديونوسوس عندما دخلت عبادته إلى أتيكا . و لقد أنتشرت هذه العبادة انتشاراً واسعاً , و أثرت تأثيراً واضحاً فى حياة الأثينيين بخاصة و اليونان بعامة , ثم فى حياة الرومان.

و لقد وصفها شيشرون قائلاً : " لم أر شيئاً أسمى من هذه الأسرار لأنها علمتنا أيضا كيف نسعد فى الحياة , و علمتنا كيف نبتسم للموت و لا نخشاه" .

و ثمة ظاهرة دينية أخرى انتشرت بين اليونان و أثرت فى أدبهم المسرحى, تلك النبوءات التى كان يسهر على خدمتها و يكتم أسرارها فئة من الكهنة , ينطقون بها شعراً أو نثراً بوحى من أحد الآلهة . و كثيراً ما ورد ذكر هذه النبوءات فى الشعر التمثيلى , و بخاصة نبوءة أبوللون فى دلفى , و نبوءة زيوس فى دودونا ( Dodona (

المسرح إذن دينى النشأة و ظل الدين مجالاً له و يعتمد عليه فى تعليم الشعب و شرح الطقوس و المراسم و تلقين الشعب مغزاها و عظاتها , و كان عبادة ديونوسوس أكثر العبادات اتصالاً بالمسرحية , و أشدها تأثيراً على تطورها لأن طقوسها كانت تتضمَّن كثيراً من الحركات التمثيلية , و تشتمل على عواطف متضاربة , يعبر عنها أتباع الإله فى بهجة و سرور تصحبها نكات غليظة , و ضحكات عالية , كانت بمثابة البذور التى نشأت منها الملهاة , و أحياناً أخرى يعبرون عنها فى حزن عميق مصحوب بالشكوى و الأنين , كان أصلاً للمأساة. فهو إله الزرع و رب الأشجار و النباتات و الفاكهة و الخضروات بكل أنواعها و هو الذى علم الإنسان الزراعة و بخاصة زراعة الكروم و البساتين و عصر الخمر و النبيذ , فهو إله الطبيعة بصفة عامة . و أصبح أكثر الآلهة شعبية على الرغم من أنه لم يكن من آلهة الأولمب الإثنى عشر. و نادراً ما نلتقى به فى أعمال هوميروس ، ربما لكونه غريباً على روح المجتمع الأرستقراطى الإغريقى . و كما تشير بعض الدلائل إلى أنه قد جاء من ثراكى أو من فريجيا , و يبدو أن عبادة هذا الإله قد دخلت البلاد فى وقت مبكر عن طريق قبائل كانت تعيش فى أسيا الصغُّرى . و كثيراً ما كان يبرز على السطح بعض المظاهر الغير يونانية لهذا الإله و أيضاً كان يتعارض مع التقاليد المتعارف عليها فى مجمع الآلهة ، فقد تميزت عبادته بالهمجية و الوحشية التى تصدم نفس الكثيرين من أهل الاستقامة فى ذلك العصر . ولهذا لم يكن سهلاً إدراك و فهم عدم منطقية و شذوذ ما كان يتم فى هذه المهرجانات الإحتفالية المكرسة له .

لقد كان الإله ديونوسوس يصطحب فى جولاته و مغامراته جماعة مهرِّجة من المخلوقات الأسطورية لا تمثل قوى الطبيعة المختلفة فحسب و انما تمثل أيضاً انفعالات الإنسان و عواطفة , و كان أغلب هؤلاء الأتباع يسمون بالساتير , الذين يسكنون الجبال و الأحراش و الغابات و هى مخلوقات أسطورية تتصف بالوقاحة و بأن نصفها إنسانى و النصف الآخر حيوانى , و لها شعر كثيف و آذان مدببة , بارزة و سيقان كأرجل الماعز , و من صفات هذه المخلوقات الجبن و الشبعة و الحيوية المتدفقة و العبث و المدح و الصخب.

و قد أحتل ديونوسوس مكاناً مرموقاً , و أمكن للإنسان أن يزيل آلامه و شجونه و أن يسعد بالمديح و البهجة فى أعياده , و هذا يُعزى إلى الرقص و الغناء المُعتاد فى إحتفالات الديونيسيا الكبرى التى كانت تتيح الفرصة لاجتماعات شعبية مرحة بوهيمية لجماعات السُكارى المرحة الماجنة التى يُطلق عليها اسم كومى Komoiو كان يفتتح عيد الديونيسيا بموكب يُرفع فيه عضو الإخصاب Phallos رمز الخصوبة كعلم قومى .

و سريعاً سيطرت عبادة ديونوسوس على مشاعر ووجدان الشعب الإغريقى ، فقد كانت هذه العبادة تمنح الإنسان إحساس بالحرية فى وقت سيادة حكم الفرد الاستبدادى على المدينة اليونانية. فالعبادة الجديدة قد وعدت الإنسان بالخلاص من كل الضغوط النفسية المحيطة به . فبدراسة الوضع الإجتماعى لحياة المدينة الإغريقية ، تجعلنا ندرك فى الحال الأسباب التى دفعت المرأة اليونانية إلى هذه العبادة . فقد كانت النساء محرومة و مقطوعة الصلة بالحياة الإجتماعية و السياسية ، فلم يكن لها أى دور حتى فى أشد العصور إزدهاراً ، فى القرن الخامس قبل الميلاد و هو العصر الذهبى لأثينا . فقد شعرت النساء بإنجذاب خاص لهذا الإله و عبادته التى تمنح الإنسان الخلاص و الحرية . فقد كانت جماعة الميناد mainades رفاق ديونوسوس تشيع جواً من الصخب و المرح و الغناء النشوان و الرقص و الإنغماس المفرط فى اللذة دفعت النساء إلى الخروج إلى الطبيعة و المشاركة فى هذه الطقوس الهمجية البدائية التى سادها الهوس الشديد إلى حد الإنفعال و الجنون . فقد كان كل من يؤمن به ينسى نفسه و يخرج من ذاته – و هذا ما تعنيه بدقة كاملة كلمة التجلى Ekstasis باليونانية ( Ecstasis بالإنجليزية) و هناك العديد من القصص الإسطورية التى تسرد لنا عن محاولات فاشلة لبعض الملوك لخنق هذه العبادة أو التخلُّص من العناصر الهمجية بها . و لكنها صمدت فى وجه كل المحاولات , فقد منحت الإنسان الحرية المُطلقة . ولكن كان على العبادة الجديدة أن تغير من بعض مظاهرها البدائية , كى تندرج داخل إطار برنامج العبادات و المهرجانات الدينية فى أثينا فى القرن السادس ق.م. و نتيجة لذلك, تم تقديم الأضاحى الرسمية التى كانت تقدم على شرف الإله ديونوسوس أمام الجماهير و فى وضح النهار ، و لم يكن لها أى علاقة بما كان يدور فى الماضى من مظاهر همجية بدائية فى منتصف الليل و فى الخلاء الوحشى .

فعبادة ديونوسوس التى ظاهرها البهجة و الحرية و الإخصاب هى القوة الخفية العميقة التى تدفع الحياة و تخلق فيها تغيرات لا نهائية و تفتح أمامهم إمكانيات لا حد لها، فالطبيعة حية تشارك الإنسان و الحيوان أفراحه و مخاوفه بحركتها الدائمة و بعراكها الممثل فى تنافر عناصرها الأربعة ، و خلف كل هذا تكمن صورة الوفرة و الرخاء و الأمن و الحرية الديونوسية و هى النهاية التى يرنو إليها العالم. و كانت النشوة التى يمكنه أن يجلبها نشوة ذات أنواع شتى . لقد كانت نشوة إلهية شائقة، تسمو بأصحابها ، إلا أنها لم يكن ثمة ما يحول بينها و بين " الانحلال" . و مما لا يكاد يرقى إليه الشك أن الأغريق فى هذه المناسبات ، و فى تلك الأيام التى كانت الدراما الصحيحة الصادقة فى دور التكوين فى تلك الأعياد التعبدية، كانوا يبيحون لأنفسهم قسطاً من الأعمال المتحررة . فالحياة أبدية و عند قيام مراسم ديونوسوس صانع الرقص لا يوجد رجل فى المدينة لا يرقص ، و ينثر الأهالى أكاليل الزهور على أرضها مع زهور الربيع رمز التجدد و البعث فليس هناك رقص بدون ديونوسوس و بدونه لا تكون الفصول الأربعة ممتعة.

و مع إنتشار هذه العبادة بين الناس صارت أكثر شعبية من أى إله آخر فى أثينا. ففى أثينا وحدها أقيمت على شرفه أربعة أعياد. و كانت تقام فى الشتاء و الربيع. فهناك عيد بدء الزراعة فى الريف فى شهرى( ديسمبر و يناير) و أعياد اللينايا(يناير و فبراير) و أعياد الربيع (فبراير و مارس) و الديونوسيا الكبرى ( مارس و ابريل) . من هذه الأعياد هناك عيدين ليس لهما إرتباط مباشر بالدراما وهما عيدا بدء الزراعة و عيد الربيع . كان الإله ديونوسوس يقدم على أساس أنه إله للزراعة و الإنبات الذى يضمن لهم الخصوبة وواهب النبيذ، فديونوسوس أول من أوحى للإغريق بزراعة الأعناب فى اليونان.

و هذه الخصائص التى تميز بها ديونوسوس ، مهما بدت لنا غريبة ، فإنها تبدو غريبة أيضاً على روح المباريات الدرامية بصفة عامة التى أقيمت فيما بعد . و من هنا يبدو لنا مدى الخسارة الكبيرة لفقد تلك العناصر البدائية الأولى للدراما , مما جعلنا لا نستطيع التعرف على الجذور و بداية نشأة الدراما على وجه اليقين و مدى إرتباطها بالأصل الديونوسى . من هنا يمكن القول بأن ديونوسوس كان له إرتباط قوى و حيوى بالدراما البدائية الأولى ، و بما أنها لم تصل لنا أية شواهد أو أدلة لدراستها و التعرف عليها ، فإننا لا نستطيع تخمين مدى الصلة بين ديونوسوس و بين المباريات الدرامية فى العصر الذهبى لها. و من الواضح أن عضو الإخصاب و الذكورة قد لعب دوراً هاماً فى نشأة الكوميديا . يحدثنا أرسطو أعظم الثقات فى الشئون المسرحية ، و الذى كتب ما كتبه عنها بعد تلك الفترة من الزمان عن نشأة المأساة و الملهاة فيقول : " لقد نشأت كل من المأساة و الملهاة بطريقة فجة و من غير خطة مرسومة و لا فكرة مدروسة ، الأولى من قادة الأغانى العنزية( الديثرامبوس) ، و الأخرى من أولئك الذين كانوا يقومون بقيادة أناشيد الذكورة " يقدم لنا أرسطو إشكالية و معلومة فى آن واحد . فعضو الذكورة Phallos قد شكل حلقة الإتصال بين العبادة و الكوميديا . ( ) فنحن نجد فى بعض أجزاء من كوميديات أرسطوفانيس القديمة شواهد و أدلة تثبت أن من ضمن أدوات الإكسسورات للكوميديا القديمة كان يوجد عضو الذكورة مصنوعاً من الجلد فى حجم معقول كان يرتديه الممثل أثناء التمثيل حول خصره . ( ) من هنا يبدو مدى الصعوبة فى فهم أو تصور كيفية نشأت الدراما الكوميدية فى صورتها الكاملة من هذه المقاطع الغنائية الدرامية الفقيرة التى كانت تحتوى على عضو الإخصاب . و يشير Radermacher OL.إلى أننا لا يمكننا بهذه الطريقة وضع أساس سليم لدراسة و فهم نشأت أحد أنواع الفنون . ( ).و الشىء المؤكَّد هو أنه عندما تطورت كل من التراجيديا و الكوميديا ، فإن الشكل البدائى الهمجى لعبادة الإله ديونوسوس قد أختفى من الدراما و أكتسبت شكلاً جديداً أكثر تهذيباً .

و من خلال دراسة مضمون المسرحيات ، يمكننا القول أن الدراما، قد أتخذت لها طريقاً خاصاً بها، إلى درجة يمكن معها القول أن التراجيديا ليس لها أى إرتباط بالإله ديونوسوس( ). بالتأكيد ظل الإرتباط بالعبادة موجوداً ، و لكن عنصر التنافس فى المباريات الدرامية ساعد على تقديم صورة و شكلاً غير دينى لكل العملية الدرامية . إن ما كان يشعر به الإغريقى من رضى و إنسجام أمام هذا الشكل الجديد للتبارى و المنافسة الدرامية، كان هو الدافع الذى سيطر على الشعراء و القائمون على العملية الإحتفالية للوصول للكمال و محاولة الفوز فى المسابقات ، هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى ، كان لكسب ود الجمهور و جذبه لهم . و هذا لا يتوافق مع الدراما الدينية ، حسب المفهوم الحديث للدراما ، التى أرتبطت بالطقوس و الشعائر . فعندما كان الشاعر يقدم عمله الدرامى بنفسه و يفوز بجائزة المنافسة ، كان الأمر مفهوماً ، فكان دور النقاد يتحدد على مدى إجادة الشاعر فى عرض قوة و عظمة الإله . و لكن عندما حل الممثلون محل الشعراء و قاموا بأداء الأدوار تمثيلاً كانت الغاية المرجوة من الأداء هى الإجادة للفوز بالجائزة ، و من هنا كان الفائز هو الجانب الفنى فى المقام الأول . و بذلك أدرك الأثينيون أن و ظيفة المسرح ترفيهية بالإضافة إلى الأهداف الأخرى .

ب‌- الديونوسيا الكبرى

عيد الديونيسيا الكبير: ( و يُسمى أيضاً الديونيسيا فقط) Dionysia كان أهم و اكبر الأعياد من حيث الفخامة و درجة الإستعدادات رغم عدم وجود أى تقاليد مرجعية قديمة لديهم ’ و مع ذلك يمكن إرجاع هذه الإحتفالات القديمة إلى الأعياد الأخرى الخاصة بديونوسوس و المتعلقة بموسم بدء الزراعة .و ليس لدينا معلومات على وجه اليقين تخبرنا عن متى و من هو الذى فكر فى إقامتها . و من المعروف أن المسئول عن تنظيم هذا المهرجان لم يكن كبير الكهنة أو أى رجل دينى آخر و لكن كان ممثل الحكومة فى الموضوعات الغير دينية و هو الحاكم المدنى archon الأرخون أو الأراخنة الذى كان يعتبر السئول الأول و الأخير عن إقامة المسابقة المسرحية , و إليه يُعزى نجاحها أو إخفاقها.و كان الأرخون يسهر على تنفيذ عدة خطوات ضرورية ليضمن نجاحها و كان الإحتفال يُعقد على شرف ديونوسوس اليوثيراى Eleuthereus . و كان تمثاله يُجلب من اليوثيراى Eleutherae و هى مدينة على الحدود الآثينية البيوتية . و كان معبده يقع على المنحدر الجنوبى من الأكروبول ، حيث يقع مسرح ديونوسوس.( ) و من المحتمل أن الطاغية بيسيستراتوس هو الذى أعاد تنظيم هذا العيد و إضاف له رونق و لمسة جمالية عن طريق إعداد جوقات ديثرامبية و تراجيدية .

وهكذا بجانب عيد الربة أثينا ( Panatheneia) ، أقدم الأعياد التى كانت تقام على شرف الربة حامية مدينة أثينا و كان يحتفل به كل خمس سنوات ، دخلت العبادة الجديدة , عبادة الإله ديونوسوس إلى أثينا فى منتصف القرن السادس قبل الميلاد ، و كان مدة العيد ( خمسة أيام فى العصر الكلاسيكى) الكبير للإله الديمقراطى الجديد . و مع صعود نجم أثينا السياسى و بروزها كدولة عظمى وسط المدن اليونانية الأخرى ، فإن أهمية العيد و الإحتفال به قد تجاوزت حدود أثينا الضيقة ، و هذا يرجع إلى حد كبير إلى العروض المسرحية . و كانت الإحتفال بالديونيسيا الكبرى الذى كان يقام فى أوائل الربيع ، الوقت المناسب لإبحار السفن ، و ذلك حتى يتمكن حلفاء أثينا من المشاركة فيه . فقد كان على أعضاء الحلف الأثينى تقديم الأموال المقررة عليهم لأثينا . و قد استغلت أثينا هذا العيد لإبراز عظمتها أمام الحلفاء . فقد كان هذا التجمع الكبير يلعب دوراً سياسياً هاماً و فى نفس الوقت لعب دور البرلمان . فمع تواجد شخصيات عامة من المدن اليونانية المجاورة و الحلفاء لأثينا ، كانت تتخذ قرارات هامة كثيرة لم يكن لها أى طابع دينى على الإطلاق . و هكذا من أجل الشعب و بإسمه يتم تكريم بعض المواطنين الذين قدموا خدمات جليلة للدولة بمنحهم اكليل ، بينما تم منح الشباب الذين فقدوا ذويهم فى الحرب بزة عسكرية كاملة لكل منهم ، و بهذه المناسبة أيضاً تم تقديم المكرمين أمام هذا الحشد الكبير . ( ) بالإضافة إلى هذا و طبقاً لما أشار إليه إسوكراتيس الخطيب ، من أن الحاكم الأثينى قد إستعرض أمام الجمهور و ممثلى الحلفاء الفائض المالى السنوى على الأوركسترا ، و ذلك عن طريق وضع هذه التالنتات فى أوعية كبيرة ( ) ، و لم يكن هذا عملاً مهذباً من أثينا خصوصاً أنه كان يتم امام الحلفاء المتواجدين فى المهرجان . و هذا التظاهر الواضح بالثروة و القوة امام نظر الإله , لم يكن له إلا طابع سياسىواضح.

و كانت الديونيسيا إحتفالية كبيرة شارك فيها بفاعلية جزء كبير من المواطنين الأحرار ، فقد كانت هذه المشاركة تعتبر فى نظر الكثيرين مساوية لأعظم حدث على مدار السنة. فقد شارك أكثر من 150 راقص فى العروض الدرامية ، و اكثر من ذلك ( عدد الف ) كانوا هم المنشدون للكورسات الديثرامبية. فقد كان الإعداد لهذه الإحتفالية يستغرق شهوراً كثيرة . ( ) و من هنا لم يكن غريبا ذلك الإرتباط الوثيق للمجتمع الأثينى بالمسرح , لم يكن هناك هوة أو تباعد كتلك التى نراها اليوم بين المسرح و الجمهور ، فقد كان راقصى السنوات السابقة هم من جمهور اليوم و العكس . و كثير من المشاهدين كانوا يعلمون ، عن خبرة شخصية، ماذا تعنى دراسة واعداد و تنفيذ جوقات إحدى التراجيديات.

و ليس من الخطأ أن ُيْفَتَرْض أن مضمون المسرحيات التى سوف تُعرض ، قد شكلت موضوعاً حاداً للنقاش و أن بعض من التفاصيل كانت معروفة مقدماً ، فقد كان عدد المُشاركين فى اعداد العرض كبير . و على الرغم من معرفة موضوع المسرحيات ، فقد كان يتم تقديم رسمى لكل العروض المسرحية التى سوف تشارك فى المنافسة قبل بداية الإحتفالات الديونوسية بيومين و ذلك فى عيد أسكليبيو فى اليوم الثامن من عام إلافيبوليون Ελαφηβολιον ، حسب التقويم الأتيكى . لهذا الغرض كانت تُقام إحتفالية , يُطلق عليها إسم Ποαγων(13) , و مازالت تفاصيل هذه الإجراءات مجهولة لنا و غامضة للأسف . و على وجه الخصوص كان يهمنا أن نعرف إذا كان الشعراء يقدمون مُلخصاً لأعمالهم المسرحية أم أن هذا الإعلان كان محصوراً فى تقديم عناوين أعمالهم . و المؤكد هو أن الشعراء الذين وقع عليهم الإختيار ، مع الجوقات΄οι χοροι و الممثلين οι υποκριτες بالإضافة إلى الممول ο χορηγος قد قاموا بتقديم أنفسهم للجمهور فوق منصة مرتفعة و توجوا رءوسيهم بأكاليل من أغصان الشجر وأوراقه ، تعبيراً عن هذه الإحتفالية الغير عادية . و لم يكن هناك أية أقنعة أو حتى ملابس مسرحية يرتديها المشاركون فى هذه الإحتفالية حتى لا يُخفون هويتهم عن الجمهور و كى يتعرف عليهم قبل بداية العروض الدرامية . اين كان يتم تنفيذ هذا البرنامج التمهيدى للإحتفالΠροαγων ؟ لقد كانت القاعة الموسيقية Ωδειο هى المكان المُعد لهذه الإحتفالية ، بعد أن قام بيركليس بإعداد هذا المكان و تهيئته فى عام 444 ق. م . و ليس لدينا أية معلومات قبل هذا التاريخ عما كان يدور هناك . و ربما يكون هذا الإعداد التمهيدى Προαγων قد بدأ فى منتصف القرن الخامس ق. م . ، و يبدوا أن هذا الإعداد أو التمهيد للعروض المسرحية قد بدأ فقط فى عصر الديمقراطية الأتيكية. و لم يتم إستخدام المسرالُملحق بالمعبد المقدس ، و هو ما يُقدم دليلاً على عدم إعتبار ال προαγων جزءاً أصيلاً مكملاً للإحتفال .

و قبل أن يبدأ العيد ، كان يتم إعادة تمثيل رحلة وصول الإله ديونوسوس من اليفثيريوس إلى أثينا . فمن غير المُستبعد أنه فى اليوم السابق للإحتفالية كان يتم حمل تمثال الإله المعبود ديونوسوس إلى أحد المعابد خارج أسوار أثينا، و بعد غروب الشمس كان يتم إعادة التمثال بمصاحبة المشاعل إلى مكانه الدائم ، فى المعبد المقدس بجوار المسرح ( 15) و كان الشباب يُشارك فى إحتفالية إعادة تمثيل رحلة الإله. و قد سُمِح أيضاً فى هذا اليوم للبرلمان بالعمل (16) و هذا دليل على أن إعادة نقل تمثال الإله ديونوسوس لم يُشكِّل جزءاً مُكمِّلاً للإحتفالات الديونوسية . و كل ما كان يتم فى الليلة التالية هو إشاعة خبر ظهور الإله( هكذا كانت ترى التقاليد) و بهذا كانت تبدأ سلسلة الإعداد لمظاهر الإحتفالات .

ففى اليوم الأول للإحتفال كان يتم تقديم عمل دينى مميز ، و هو الموكب العظيم للأضحية. فى هذا الموكب كان يُشارك فقط كل من له دور فعلى و حيوى فى المسابقات ، ( 17) و قد شاركت النساء أيضاً ، و هو ما كان فرصة نادرة لخروج النساء من المنزل (18). و قد أعتبرت دولة أثينا هذا العيد دافع قوى لإبراز دورها القيادى البارز فى بلاد اليونان و ذلك عن طريق تقديم مظاهرإحتفالية مليئة بالفخامة و الإبهار . فبجانب موكب الأضاحى كان يوجد تقديمات و مظاهر إحتفالية أخرى مُتعدِّدة ، حيث كانت فتيات الأسر الأرستقراطية تحمل هذا التقديمات فى أوانى ذهبية فى موكب فخم يعبر عن ما وصلت إليه أثينا من إزدهار و تقدم . و كما كان فى أعياد بداية الزراعة الديونوسية κατα αγρους Διονυσια ، تُقدم العروض الفالية οι φαλλικες παραστασεις التى ترمز لخصوبة الأرض ، و من أجلها عبد الناس الآلهة. و من مجموع هذه المواكب الفخمة تم تقديم صورة رائعة مبهرة و بألوان زاهية بديعة : فقد أرتدى مواطنى أثينا ثياب بيضاء ، بينما أرتدى ضيوف الإحتفال القادمون من مدن يونانية أخرى الثياب الحمراء . بالإضافة إلى هذا فقد تميز الممولون οι χορηγοι بملابسهم الفخمة المعبرة عن الأرستقراطية و الثراء , فقد كان الإهتمام مركزاً عليهم فى هذا اليوم ، تعويضاً لهم على ما قاموا بتقديمه من أعباء باهظة فرضتها عليهم الدولة فى سبيل إخراج و اعداد هذا العيد. (19)

و على الرغم من شعبية هذا العيد ، فإن معلوماتنا عن كيفية إعداده و تنظيمه ناقصة و غير مؤكدة . فمن الواضح أن السبب كان بديهياً ، فالأمر كله كان معروفاً و شائعاً و يُشارك فيه جميع الأثينيون و لهم فى ذلك خبرات شخصية ، و لم يكن هناك سبباً مُلِحَّاً يدفع إلى تسجيل هذه الوقائع و الأحداث لا . و هكذا فإننا لا ندرى بالضبط من أى موقع فى المدينة كان يبدأ الموكب . و المؤكد أنه كان ينتهى أمام معبد ديونوسوس فى إليفثيريا . و من هناك و بعد الإنتهاء من تقديم الأضاحى ، كان الحشد يتجه إلى المسرح المجاور . و مع افتراض أن الموكب كان يبدأ فى الفجر ، يمكننا أن نتخيَّل أن الجمهور قد تجمع فى المسرح مُبكرا جداًً. و أمام هذا الحشد الضخم كان يتم تقديم جوائز التكريم لبعض الشخصيات الوطنية المميزة الذين قدموا أعمال اً جليلة للأمة ، و عند المساء كان يتم تقديم العروض الديثرامبية ، و هى عبارة عن أناشيد دينية يقوم بإنشادها جوقات مُشكَّلة من الرجال و الشباب . و ليس فى إمكاننا تأكيد الرأى القائل بأن أول أيام العيد ، على الرغم من تقديم برنامج ضخم فى هذا اليوم ، كان ينتهى بمهرجان إستعراضى صاخب كبير فى شوارع المدينة ( ( Κωμος و هو النشيد الماجن ، و هذا يتوقف على البحث التى سوف نقوم به و الذى يتعلق بالدليل الوحيد المرتبط بهذا الموضوع ، فى قانون يواجوروس Ευηγορος الذى اشار إليه الخطيب الشهير ديموسثنوس Δημοσθενης فى حديثه ضد ميديا κατα Μειδιου (20) . و غالباً ما يبدو منطقياً أن عيداً قد بدأ بصفة رسمية شديدة , لابُد و أن ينتهى بصورة تلقائية ، بتظاهرات إحتفالية صاخبة تُعبر عن الفرحة و البهجة (21).

و كان الديثورامبوسDithurambos) (، على وجه الخصوص ، أغنية دينية للإله ديونوسوس , و يتخذون أسطورته موضوعاً لأناشيدهم ، فيتحدثون عن ميلاده , و يتناولون حياته بالتفصيل , و يصفون الأخطار التى واجهها . و كان الشاعر يضم إليه جماعة من الناس , يلقنهم بعض الأبيات التى تفيض بالحزن و الأسى, يرددونها أثناء الإنشاد , و كان أفراد هذه المجموعة( الجوقة فيما بعد ) يرتدون جلد الماعز ليظهروا بمظهر الساتوروى ( Saturoi ( , أتباع ديونوسوس . و كان هذا الكورس الراقص مكون من الرجال و الشباب من الذكور بمصاحبة الناى (22) . و الكلمة " ديثورامبوس" هى أحد الألقاب القديمة التى أُطلقت على الإله ديونوسوس , و هى كلمة استعصت على محاولات طويلة لتفسيرها أو حتى معرفة مصدرها . و المتعارف عليه أنها ليست كلمة يونانية . و تستعمل للتعبير عن الإله و أيضاً عن الأغنية الدينية ، الذين جاءا معاً إلى اليونان من شعوب ثراكى و فريجيا و انتهى بهم المقام فى أثينا ، بعد مرورهما بكورينثوس . هناك ، فى بلاط الملك بيرياندروΠεριανδρου كما علمنا، كان أريون Αριων ( حوالى 625 ق. م. ) يقوم بتعليم القصائد الديثورامبية ، و إليه يرجع الفضل فى تحوِّل الأغنية الدينية الإرتجالية إلى عمل فنى محدد المعالم , كما أعطى عناوين لأغانيه الكورالية التى كان مضمونها قصصياً سردياً , و أهم نقطة بالنسبة لبناء ما قبل تاريخ التراجيديا هو أن" آريون " قد عرض انتاجه الديثورامبى بواسطة الستير Satyrs . و هو أيضاً أول من طلب الى أحد أفراد الجوقة و هو الذى أصبح يُطلق عليه فيما بعد اسم " اكسارخوس" أى رئيس الجوقة - أن يصعد الى مائدة القرابين ليلقى على المستمعين فى صورة سرد قصة تتعلق بالإله ديونوسوس , مُشيداً بمغامراته و رحلاته العجيبة , بينما يُعلق أفراد الجوقة على هذه القصة من حين لآخر ببعض الأبيات التى تناسب المقام , و لم ينتقل الأمر من مرحلة السرد الى مرحلة التمثيل الا على يد شاعر آخر هو ثيسبيس الذى أزدهرت أعماله حوالى عام 535 ق.م , و هو تاريخ أول مسابقة مسرحية عقدت فى أثينا .(ايسخيلوس مسرحية ) و من هنا تظهر النقطة التى تقارب فيها الديثورامب مع الدراما الساتورية , و بذلك وُجد الأصل المزدوج للتراجيديا , الذى حدده أرسطو فى « الشعر Poeticas» لسوء الحظ لم يصل إلينا إلا عدد قليل من القصائد الديثرامبية ، على الرغم من الكم الكبير الذى كان يُقدم فى هذه الإحتفالات و المهرجانات، و تطوره الفنى الكبير الذى وصل إلى حد الكمال فى النصف الأول من القرن الخامس ق.م . و قد كتب كل من سيمونيديسΣιμωνιδης ، بنداروس Πινδαρος ، وباكخيليديسΠακχυλιδης ( و يجب أن نشير هنا أنه لم يكن اى منهم أثينى المولد) قصائد و أغانى ديثورامبية للعروض الديونوسية . أما فيما يتعلق بالشاعر باكخيليديس فإن ما تم العثور عليه من أوراق البردى الهامة ، يساعدنا على رسم صورة ، حتى ولو كانت صغيرة، لخصائص هذه القصائد و الأشعار الديثورامبية(23) . فمن ناحية الشكل ، فإن هذه القصائد الغنائية تذكرنا بأغانى الجوقات فى المسرحيات التراجيدية و بناءها الفنى ، فقد كتبت على شكل مقاطع شعرية ، و لكن من ناحية الموضوع، فقد ابتعدت عن الأغنية الدينية بمعناها الضيق . أما فيما يتعلق بأبعاد الموضوع ، فإن التأثير القوى للشعر الملحمى كان كبيراً جدأً وواضحاً، فقد تضمَّنت هذه الأشعار أجزاء سردية كبيرة على شكل اسطورى، تحمل عناوين مختلفة حسب مضمون القصيدة الديثرامبية . و هكذا كان من الصعب ، ليس فقط ، أن نجد علاقة ما بالأساطير الديونوسية ، و لكن أحياناً ، يختفى تماما أى إشارة إلى أى فعل إلهى ، إلى حد أن أطلق البعض على هذه الأشعار الديثرامبية " الأغانى البطولية"( 24).

و لكن الإجماع أو اتفاق وجهات النظر بالنسبة للشعر الديثورامبى و تطوره إلى التراجيديا عسير للغاية , فأولاً الرأى الذى يقول بأن وضع الشعر الديثرامبى و رئيس المنشدين (أو الاكسارخون) فى ابتداء تطوره حسب رأى أرسطو , هما اللذان اديا إلى التراجيديا . و يشتق أرسطو الدراما من الارتجال , بإعتبار أن بدايتها كان اولئك المرتلين للديثورامب ( Poetics 1449 a 9) و قد تعنى العبارة hoi exarchontes ton dithyrambon الواردة عند أرسطو اولئك المنشدون الذين بدأوا الانشاد , و من ثم تميزوا عن الجوقة . و من الواضح أن أرسطو كان يعتقد ان التقابل بين الجوقة و المرتل قدم نقطة البدء فى تطور الحوار الدرامى . و الرأى الثانى يقول أن " الكورس التراجيدى" هو الذى أوحى لمعاصرى سوفوكليس و يوريبيديس بفكرة المشهد الدرامى كما توجد أراء أخرى مُخالفة لهذا.

و الواقع أن تطور الديثرامبوس من إنشاد سيرة بطولية بشكل صلاة و دعاء و ابتهال الى الإله , إلى الكورس الذى يقوم بالرقص و الإنشاد متقنعاً بشكل الساتير أى مخلوق نصفه حصان ليس فى أثينا فحسب بل فى كل بلاد اليونان اى ديثرامبوس احتفالى مع قصص ميثولوجى يرتجله رئيس الكورس( أى اكسارخون)

و من خلال ما تم الإشارة إليه , يبدو أن التراجيديا قد تطورت و نبعت فكرتها من رؤساء الجوقات Exarchon اكسارخون أو Exarchosاكسارخوس Εξαρχονταςالديثرامبية.( 25)

و مهما تعددت الروايات حول نشأت المأساة الأثينية , فمن المقطوع به أن المأساة قد نبتت من الرقصات و الأغانى الديثورامبية , ثم أخذت تتطور تدريجياً حتى صارت فناً قائماً بذاته. و من المؤكد أن الديثورامبوس قد تطور تطوراً سريعاً منذ أن أرتبط بأعياد هذا الإله التى تقام فى أثينا . و هكذا صدق أرسطو عندما قال بأن الدوريين كانوا أصحاب الفضل فى خلق المأساة , وصدق أيضاً الذين قالوا بأن الأثينيين كانوا أصحاب الفضل فى جعلها فناً أدبياً رائعاً . ففى سيكوون و كورينثة الدوريتين ظهرت بذور المأساة , و أخذت تنمو حتى حققت فى هذه البقاع نوعاً من الرقى , ثم انتقلت إلى أتيكا حيث اكتملت عناصرها , و أتخذت صورتها النهائية ؛ فهناك تحول القاص إلى ممثل بالمعنى الصحيح , و أصبح رئيساً للجوقة , يقوم بالدور الأساسى , فيمثل شخصية الإله , كما يقوم بسائر الأدوار بأن يدخل خيمة (Skene و يغير ملامحه و ملابسة, و يمثل دور الرسول أو البطل .. و كان كل مرة يخاطب أفراد الجوقة فى موضوع مختلف, و بذا تعددت أغانيه و امتلأت المأساة حياة و حركة بفضل تنوع مهمته.

و لسنا فى موقف نستطيع أن نثبت فيه أو نؤكد إن كان تم إدخال ممثل من خارج الكورس أم أن قائد الكورس قد استقل بنفسه و قام بأداء دور الممثل الأول . ) و هكذا بعد أن كانت الإحتفالية عبارة عن أناشيد جماعية محضة دخلت فيها الحوار , و هذا بلاشك أساس الدراما . و الجدير بالذكر أن مشوار تطور التراجيديا و خروجه من عباءة الأشعار الديثرامبية لم يُوقف تطور هذه الأشعار أو أن يُقلل من شأنها بل على العكس , ظلت الأشعار الديثرامبية تُقدم فى المهرجانات و جزءاً هاماً من برنامج المهرجان , بل قام لاسوس ارميونيوس Λασος ο Ερμιονευςالمُعاصر لثيسبيس Θεσπηςو لكن أصغر منه سناً , بتقديم هذه الأشعار فى أثينا و منحها دفعة قوية إلى الأمام . و بقيام Κλεισθενης بتنظيم القبائل اليونانية ( حوالى 508:7 ق.م. ) قامت هذه القبائل بالمشاركة فى المباريات الديونيسيا الكبرى بالإضافة إلى الجوقات التراجيدية كانت تُقدم أيضا جوقات ديثرامبية .

و كانت هذه المباريات الكورالية الغنائية تتم بين القبائل . و هناك إختلافات فى الرأى حول عدد الجوقات التى كانت تُشارك فى هذه المباريات و أختلفت أراء الباحثين حولها. و طبقاً لأحد المصادر كانت الجوقة تتكون من 50 فردا , ولكن ليس من المعروفً على وجه اليقين , إن كان على كل قبيلة أن تُشارك بفرقة من الرجال و أخرى من الغُلمان أم أن عدد الفرق المُتبارية كانت 10 فقط . و هكذا كان لكل من هذين التفسيرين مؤيدين.(28) و هناك كتابات تُؤيد الرأى الأول و تؤكد أن كُل قبيلة كان فى إمكانها أن تفوز بجوقة من الرجال بالإضافة إلى جوقة الغلمان فى نفس العام . ( 29) و نظراً لعدم وجود أية دلائل أو معلومات حول طريقة المُشاركة أو الإختيار (30), يُمكننا أن نستنتج أن كل قبيلة كانت تُشارك بجوقتين , و بالتالى كان عدد الجوقات المشاركة 20 فرقة.

ومن ناحية الزمن الذى كانت تستغرقة أحدى الجوقات الديثرامبية , من الصعب الجذم بشىء على وجه اليقين , و ذلك بسبب عدم توافر أى نص كامل بين أيدينا . و لهذا من الأفضل عدم حساب مدة زمنية ما. و لكن من المُفترض و المنطقى أن عشرين أُغنية كورالية كانت تؤدى فى أُمسية واحدة , و قد كان هذا يُسبب ارهاقاً لجمهور المشاهدين . و ينطبق نفس الشىء على العروض الدرامية فى الأيام التو كان الإعداد و تنفيذ الأشعار الديثرامبية يتشابه فى كثير من العناصر مع المسابقات الدرامية . فقد كان هناك مُمول Χορηγος يتولى الصرف على هذه العروض الديثرامبية . و ما تُشير إليه المعلومات المتوافرة لدينا , كانت التكلفة كبيرة (31) . و هذا ما يجعلنا نعتقد أن المدة التى كان يستغرقها التدريب كانت كبيرة . فمن أجل تدريب الجوقة كان يتطلَّب الأمر وجود مُعلم رقص و كذلك عازف للناى, و كان على الراقصين استيعاب الكثير من الحركات المعقدة بالإضافة إلى استيعاب الموضوع و الموسيقى , فوق كل هذا : كان على الممول أن يتحمَّل تكلفة الملابس الإحتفالية . و لم يرتدى أفراد الفرقة الديثرامبية أية أقنعة و بالتالى لم يكن هناك نفقات فى هذا المجال.

و مع نهاية الربع الأخير من القرن الخامس ق.م. حدث تغييراً جذرياً فى الشعر الديثرامبى. فقد لعبت الموسيقى الدور الأول فيه وصارت أهم من الموضوع , و أصبح عازف الناى هو البطل الأول فى المُسابقة , إلى درجة ان الإعلانات المكتوبة كانت تُشير فقط إلى العازفين فى المسابقة. وبالتالى تحوَّل الشعر الديثرامبى إلى حفلة من الحفلات الموسيقية خالياً من أى عُنصر دينى . و من هذا كله يُمكننا أن نتعرف على سياق التطورات التى سوف تلعب دوراً هاماً فى الدراما . ( 32)

و بعد الأنتهاء من الأشعار الديثرامبية , كانت الأيام التالية مُخصَّصة للدراما , و كانت المسابقات التراجيدية هى الأهم فى الديونيسيا الكبرى و تم تقديمها فى الفترة من 11- 13 من شهر مارس و هو ما يُعادل باليونانية القديمة شهر إلافيبوليون Ελαφηβολιον. و مع إضافة الكوميديا إلى المهرجان فى عام 486ق.م . تم إضافة يوم آخر للمهرجان . و لأن التراجيديا ظلت تستحوذ على الأهتمام الأكبر فى المهرجان , حافظت على مكانها فى الأيام الأخيرة من المهرجان.( أى فى الفترة من 12- إلى 14من شهر مارس) و تم تخصيص اليوم الثانى من المهرجان للكوميديا ( أى يوم 11من الشهر)(33) . و خلال الحرب الببلوبونيسية , يبدو و لأسباب إقتصادية, حدثت تغيير مؤقت فى البرنامج . تم تقديم ثلاث كوميديات و الزمن المحدد للمباريات الدرامية أقتصر على ثلاث أيام فقط , و بالتالى كان بعد كل رباعية تراجيدية , يتبعها مسرحية كوميدية فى المساء (34) . و لهذا السبب كان على العروض الدرامية أن تبدأ مبكرأ فى الصباح. و لا نبالغ إذا قلنا أن المدة التى كان يستغرقها أحد العروض المسرحية حوالى ساعتين, بينما أستغرق العرض الساتيرى حوالى الساعة أى نصف الوقت . و نستنتج من هذا أن عرض رباعية كاملة كان يستغرق سبعة ساعات كاملة.

و لإضفاء الصفة الدينية على المهرجان , كان يتم تقديم الأضاحى قبل العروض الدرامية , و هى عبارة عن خنزير يذبح و يُنثر دمه فى المسرح و على الجمهور للتطهُّر . و يتم بعد ذلك إختيار النقاد الذين كان عليهم تقييم العروض نيابة عن الشعب . و بمجرد أن يعتلى النقاد مقاعدهم الشرفية , يبدأ العرض المسرحى (35) .

و كان ترتيب ظهور المتسابقين يتحدد بالقرعة , و ينطبق هذا على كل من الدراما و كذلك الأشعار الديثرامبية . و كان المتسابق الذى يحصل على الترتيب الأخير يتمتع بميزة ما , لأن النقاد , كما هو طبيعى, يحتفظون للعمل الأخير بالإنطباع الحى فى اذهانهم على خلاف العروض الأولى . و هذا ما يُفسِّر لنا قلق أريستوفانيس , الذى طلب من النقاد فى مسرحية Εκκλησιαζουσες فى سطر ( 115 وما يليه) أن يكونوا موضوعيين و عادليين فى قرارهم ( لأن من سوء طالعة حصل على الترتيب الأخير فى ذاك العام أمام خمسة متسابقين) . و لم يكن مثل هذه الأمور تُشكِّل ظاهرة غير عادية, فقد كان على الشاعر فى مثل هذه الظروف أن يكون لديه هذه الأبيات الشعرية جاهزة من قبل لأستعمالها عند الضرورة و بالتالى كان يُضيفها إلى النص المسرحى فى آخر لحظة.

و من المنطقى أن برنامج يومى يشتمل على خمسة كوميديات , يتطلَّب جلوس الجمهور 10 ساعات متواصلة بلا حراك و إنتباه تام على مقاعده, و الأمر الذى يدعو للدهشة و يثير العجب قدرة و جلد هؤلاء الأثينيين الذين يواظبون على حضور عيد الديونيسيا الكبرى من بدئه إلى نهايته أربعة أيام منها يشاهد الشعب و يستمع إلى 15 دراما أو ربما 17 تمثيلية , خلاف ما يسمعونه من أناشيد الدثيورامب تتكون من حوالى 20 ألف بيت شعر بين إلقاء و غناء . إن تحمل كل هذا يثير الدهشة حقيقة و لكن تلك الجماهير قد تعودت ذلك و مارسته فكانوا ينصتون فى عيد الباناثينايا Panathenaea الذى يقع فى أواخر شهر يوليو المسمى باليونانية هيكاتومبايون Hekatombaionإلى أشعار هوميروس مما جعل تركيزهم قوياً . و كانت طاقة تحمُّل الجمهور ُتبِّرر إلى حد ما, ما حدث فى النصوص المسرحية فيما بعد, فقد تم إختصارها عما كانت عليه فى العصر الكلاسيكى . و على سبيل المثال كان كاتب كوميدى مثل Μαγνητας يتحدد بثلاثمائة بيت شعرى كأعلى حد له.(37)

و مع إعلان الفائزين فى المسابقة التراجيدية تنتهى بصفة رسمية الديونيسيا الكبرى فى مساء اليوم الخامس من المسابقة. و كان يتبعها تجمع آخر , فبعد إنتهاء الإحتفالات بالعيد , كان قانون تنظيم المهرجان , يتطلًَّب معرفة رأى جمهور الشعب لعملية تنظيم الإحتفالات السنوية التى قام بها الأرخون و مساعديه , فإما ان يصوت الشعب له بالشكر و إما باللوم . بالإضافة إلى ذلك , كان لكل مواطن الحق فى تقديم شكوى أو تظلُّم ضد أى حدث عاق أو قد يكون قد سبَّب نوعاً من الفوضى فى المهرجان . و إن حازت الشكوى القبول , كان يتبعها بحث منظَّم للقضية , و كان إحتمال حصوله على مطالبه كبير. ( 40)

و بالإجتماع الشعبى الذى به تنتهى الديونيسيا الكبرى , كان القانون يرى قيام عيد آخر على شرف الإله زيوس’’ Πανδια" . هذا الإحتفال القديم ظل الأهتمام به يقل و فقد أهميته , لأن الأحتفال بعيد ديونيسوس قد غطى عليه , كان هذا العيد يتم فى منتصف الشهر . و من هنا , من المحتمل أن يتم الإجتماع الشعبى فى اليوم السادس عشر منه . (41) و يبدو أن تحديد اليوم كان به تساهل و مرونه , لأننا نجد إشارات لتواريخ أخرى .

ج - عيد لينايا

Τα Ληναια

اسم ليناى Lenae اسم آخر للميناد mainades مثل Bacchae باكخاى أو Bacchantes باكخانتتيس أى النساء اللاتى مَسْتهن لوثة حب ديونوسوس . ففى رحاب معبد Lenaion ) ( لينايون المقدس كان يُقام الإحتفال بعيد ديونوسوس الأول أو عيد عصر العنب فى المعاصر( من Lenos لينوس) أى الأوانى التى يُعصر فيها العنب و إن كان فى هذه التسمية شكوك , و تؤكد المصادر أن كلمة اللينايا ليس لها صلة بكلمة Lenos التى تعنى المكان الذى يُعصر فيه العنب فمن المستحيل منطقياً أن يحدث عصر العنب فى الشتاء لأن ميعاده الطبيعى فى الخريف . ولكن ما وصلنا من معلومات عن إحتفال اللينايا أقل بكثير عن ما وصلنا عن الديونيسيا الكبرى . (42). ومن المعروف أن الليناى كانت أقدم عيد ( و لهذا كان الملك يقوم بنفسه بتنظيمه) و كان الأعياد تقام فى الشتاء فى " فى أواخر يناير و اوائل فبراير تقريباً" أو حسب التقويم الأتيكى شهر جاميليون أى شهر الزواج نسبة الى الاتحاد الدينى للالهين زيوس و هيرا . و كان فى الأصل مُخصَّصاً لعرض الملهاة و لما كان الطقس البارد لا يُشجع الأجانب على زيارة أثينا فى ذلك الوقت , لذا لم يهتم بهذه الأعياد سوى الأثينيون وحدهم فأصبحت أقل أهمية من أعياد ديونوسوس الكبرى . ( كتاب عبد المعطى ص173) . أما فيما يتعلق بموقع الإحتفال بالعيد فإن أراء الباحثين مازالت حتى اليوم تختلف و تتعارض فيما بينها. فمنهم من حاول أن يربط بين الأسم لينايا بإسم معبد ديونوسوس المقدس فى منطقة ليمنى( وهو مكان يقع فى مستنقعات و أحراش من الغرب من منحدرات الأكروبول) (43). و الأكثر قبولاً طبقاً للدلائل المكتوبة هو فى ساحة السوق , على الرغم من أن الحفريات لم تصل إلى شيء حتى الأن (44). و من المؤكد أن إسم لينيون Ληναιονمُشتق من الكلمة النادرة لينى Ληναو التى تعنى Βακχες, و ليست من كلمة Ληνον والتى تعنى عصر العنب بالأرجل , لأن الإشارة إلى عيد معاصر العنب فى قلب الشتاء يعتبر مستحيلاً .

و بالتالى يجب إعتبار أن أعياد اللينايا أُقيمت على شرف الإله ديونوسوس و هى أعياد صاخبة بوهيمية , و يبدأ العلامة L. Frickenhaus من مثل هذا الرأى , بدراسة ايقونات مُصورة على الأوانى الفخارية من القرن الخامس ق. م. " على إعتبار أنها أوانى لأعياد اللينايا " و يجب أن نشير إلى أن هذا البحث لم يُقبل من جميع الدارسين . فقد أحتوت هذه الأوانى على صور و رسومات تمثل جمع من النساء قد مسَهن حب ديونوسوس و اُصيبن بالجنون و الهيستيريا . وقد صوِّر هذا المعبود مُرتدياً قناعاً بلحية مُثبت على أحد الأعمدة الخشبية . و حول هذا العامود πασσαλο التف نبات متسلِّق كاللبلاب وغيره, وقد ارتدى ملابس كاملة , و نتيجة لذلك كان من الصعب أن نميز إن كان هذا الوجه حقيقى أم أنه تصوير له . ويبدو من خلال هذه الصور و الرسوم أن النبيذ و الأضاحى قد لعب دوراً هاماً فى هذه الطقوس . و هذا ما يوضح بدون أدنى شك إلى أن هذه الصور لفرقة ديونوسوس وأعياده . و مع كثرة ما وصلنا اليوم من معلومات , مازال من الصعب أن نقرر أن هذا الصور و الرسومات كانت لعيد آخر.

وكان قانون يواجوروΕυηγορου يحدد لأعياد اللينايا موكب واحد , بالإضافة إلى العروض التراجيدية و الكوميدية , و لكن لم يكن هناك الإحتفالات الصاخبة و المجون المصاحب للكوموسΚωμος. و من الممكن تخمين وجود عروض الكوموس , لأن هذا العيد بصفة خاصة , كان يشتمل برنامجه من القديم , على عروض كوميدية( 47) . بالإضافة إلى ذلك , إذا صدق الرأى الذى ذكرناه حول الأوانى الفخارية و الرسومات التى تم بحثها و ما وجد مُصورأً عليها , أصبح لدينا أيضاً هذه الرسومات المصورة المرتبطة بهذا الموضوع .

و كان موقع الإحتفال فى البداية هو المكان المقدس للإله فى لينيو Ληναιο . و عندما قامت الدولة بتنظيم هذا المسابقات و رعايتها , انتقل المهرجان إلى مسرح ديونوسوس (48) . و قد تطلَّب وقت طويل كى تتحقق هذه الخطوة , خصوصاً إذا فكرنا أنه بعد إضافة المسابقة الكوميدية الرسمى إلى , برنامج الديونيسيا الكبرى , انقضى حوالى نصف قرن حتى يتم إضافته إلى أعياد اللينايا( حوالى 440ق.م) و كان السبب واضحاً , فالكوميديا قد حافظت على شكلها القديم و لفترة كبيرة و هو عنصر الإرتجال( بمعنى أن التنظيم و العرض الخاص بها كان يقوم به الهواة ) (49) , و بالتالى لم يكن هناك ضرورة لأى تمويل حكومى ) .

و يبدو أن المسابقة الكوميدية فى أعياد لينايا , مع مرور الوقت , قد اتبَّعت نفس طريق التطور الذى وُجد فى الديونيسيا . فتحديد عدد المتسابقين بخمسة شعراء لا بد وانه قد أُعتبر عُرفاً ُمتبعأً منذ البداية., ( 50) و قد تم تقليل العدد إبان الحرب البيلوبونيسية إلى ثلاثة شعراء فقط . فى نفس الوقت , عندما تولت الدولة رعاية المسابقات , بدأت العروض الكوميدية فى الظهور و المنافسة بين الممثلين . (51 )

كان للتراجيديا فى أعياد اللينايا منزلة أقل مقارنة بالكوميديا . و قد بدأت المسابقات التراجيدية الرسمية بعد عشرة سنوات , و قد بدأت المنمافسة فى نفس الوقت بين الممثلين , (52) و كما يبدو فقد تنافس شاعرين فقط , و بعرضين تراجيديين لكل منهما . و لم يتوافر لدينا أية معلومات عن المسرحية الساتورية . ( 53) و لسنا فى وضع يمكننا من أن نقرر إذا كان ما وصلنا من معلومات عن أعوام 419/ 8 ق.م. تشكِّل عرفاً متبعاً أم أنها تشير فقط إلى برنامج سنوات الحرب . و بالتأكيد يوجد دلائل كافية على أن المسابقة التراجيدية قد تم تقييمها فى يوم واحد فقط. و طبقاً لطبيعة الزمن المحدد للمسابقة , كان تتحدد أهميتها بناء عليه : الشعراء التراجيديين الكبار لم يُشاركوا بصفة دائمة فى أعياد اللينايا . فقد فاز سوفوكليس فى أعياد اللينايا 6 مرات فقط من عدد 24 جائزة حصل عليها , بينما يوريبيديس ربما يكون قد تجاهل تماماً هذا العيد . (54)

و بصفة عامة , كان الحصول على جائزة فى أعياد اللينايا أهمية كبيرة جداً , (55) حتى و لو كانت لكاتب كوميدى . و يكفى أن نتذكَّر شعور أرستوفانيس الذى أعتاد النصر , بالمهانة و المذلة , عندما خسر فى الديونيسيا عام 423 ق.م. بعرضه مسرحية " السحب " .

و لم تكن أعياد اللينايا لليونان عامة , كما هو الحال فى أعياد الديونيسيا , بل كانت فقط للشعب الأثينى , لأن طرق المواصلات كانت تتوقف فى الشتاء تماماً , و لم يتمكن الأجانب من زيارة أثينا , و هكذا كان الأثينيون وحدهم فى هذه المسابقة(55) . و لهذا السبب يعتقد البعض أن أعمال أرستوفانيس التى عُرضت فى أعياد اللينايا , طبقاً لما هو معروف , كان لها طابع و لون محلى خالص.

د- عروض مسرحية خارج أثينا

الشواهد على وجود عروض مسرحية خارج أثينا فى القرن الخامس ق.م . نادرة جداً . فنحن نعلم أن إيسخيلوس قدم عروضاً فى بلاط الملك هيرون Ιερωνας فى سيراقوسيا بجزيرة صقلية, ( 57) و كذلك يوريبديس فى السنوات الأخيرة من حياته قدم عروضاً فى بلاط الملك أرخيلاؤس Αρχελαος فى مدينة بيلا بشمال اليونان. بالإضافة إلى ذلك, قدم لنا أحد القدماء معلومات تفيد أن مسرحية " أندروماخى" قد عُرضت فى مكان ما خارج أثينا( مجهول لنا ) (58), و أن جزءاً من مسرحية " الثيسموفورياΘεσμοφοριαζουσες " لأرسطوفانيس يسمح لنا أن نستنتج أن عام 411 ق.م. أن أعمال يوريبيديس كانت تُقدم فى أماكن مُختلفة (59) , و حدث تحول كبير فى القرن الرابع ق.م. و لأول مرة , يمتد المسرح الأثينى و يتوسَّع و بسرعة كبيرة فى جميع العالم الأغريقى . و على الرغم من ذلك ظلت تحتفظ بالمركز الثقافى و الفكرى فى بلاد الأغريق فقد جذبت إليها بشدة الشعراء و الممثلين 0 و كانت العروض المسرحية تُقدم أولاً فى أثينا (60) و على العكس , كانت المدن الأغريقية الأخرى تفضل العروض الكلاسيكية التى حصلت على جوائز فى أثينا و تقوم بتقديمها على مسارحها.

و قد انفصلت المسابقات الدرامية التى كانت تقام خارج أثينا عن عبادة ديونوسوس . و لكن من المؤكد , أن الأعياد التى كانت تُقام على شرف أحد الآلهة , ظلت هى الإطار العام لهذه العروض المسرحية , و تحوَّل ديونوسوس الأن إلى مجرد إله وسط آلهة كثيرة متعددة , و لم يوجد أى علاقة جوهرية بين الطقوس الدينية و الدراما كعُرف عام . ففى مدينة ثيسبيسΘεσπιες التابعة لإقليم بيوتيا Βοιωτιαيقدسون ربات إليكونياديس Ελικωνιαδες و كانت جارتها أوروبوس Ωρωπος كانت مركز عبادة امفياراؤ Αμφιαραοςللعرافة و التنجيم , و كان معبد ديلفوس مُكرساً لعبادة الإله أبولون , و كان يقام له عيداً سنوياً للشكر لإنقاذه العالم الإغريقى من غارات شعوب الكلت 279/ 8 ق.م. ( 61) و فى مدينة أرجوس كانت العروض المسرحية تُقام على شرف الربة هيرا زوجة زيوس كبير الآلهة 0 و فى مدينة ذوذونى Δωδωνη ( و على المسرح الذى مازال يُستخدم حتى اليوم) كانت العروض تقام على شرف الإله زيوس نايو , و كان مسرح إبيداوروس الذى يقع خارج المدينة , مرتبط بالمكان المقدس الخاص بالإله اسكليبوسΑσκληπιος .

و لم يحتاج الأمر إلا إلى خطوة صغيرة , فى العصر الهيلينيستى , حتى يتم إعتبار بعض الأحداث السياسية, ومظاهر الإنتصارات أو زواج ملكى زريعة لتقديم عروض مسرحية . و من الجدير بالذكر أن نشير إلى أعياد حلف ديلوس لعدد من الشخصيات المشهورة (62) و أكثر من ذلك كان يتم فى تلك المناسبات كان يتجه الناس إلى الآلهة إما للحصول على حمايتهم و تجنب غضبهم و أما للتعبير عن الشكر لهم. و من المؤكد, أن الدراما , و بدون أدنى شك , قد أكتسبت مع مرور الزمن شكل دنيوى انسانى و فنى بحت .

2- المشاركون فى إنجاز عرض مسرحى

أ- الأرخون، الممول، مدرب الكورس

كان الإعداد للمسابقات الدرامية يتطلَّب أكثر من ستة شهور . فمن اللحظة التى يتولى فيها المسئولون الرسميون مسئولية الأعياد( الحاكم العام للديونيسيا الكبرى , و الملك فى أعياد اللينايا ) فى الصيف, كان من أولويات مهامهم هى إختيار ثلاثة شعراء من المرشحين للمسابقات ومنحهم " جوقة " طبقاً لما هو متبع فى هذه المناسبة ( 63) , و هذا يعنى الموافقة على الإختيار . و لا يتوافر لدينا أية معلومات عن المعايير التى بها كان يتم هذا اختيار ‘ و لهذا ليس من الصعب تصور مشاكل مثل هذا الإجراء . فلم يكن أى من الحاكم أو حتى مساعديه الإثنين على دراية أو خبرة فى هذا المجال ‘ فقد كانت مسئولية تنظيم أعياد الديونيسيا الكبرى مجرد واحداً من الإختصاصات الكثيرة الملقاة على عاتقهم .

و لأنه من الصعب أن نتصور أن الحاكم , كى يصل إلى قراره النهائى , كان عليه أن يقرأ النص الدرامى لجميع المرشحين و ذلك إما كاملا ً و إما مقتطفات منه , ( 64) يجب أن نفترض أنه ربما يكون تقييمه قد كان يتم عشوائياً أو ربما كان قد وضع فى إعتباره بعض المعايير الأخرى , و كان المعيار الأهم فى هذا الإختيار هو شخصية المرشحيين , بالإضافة إلى ذلك , وكان الأهم , التقييم وعدد الجوائز الذى حصل عليه كل منهم فى المسابقات الأخرى . و قد لعب دوراً أساسياً و هاماً أيضا مدى القبول و الرضى الذى ناله من الجمهور, فقد كان من الصعب على الحاكم تجاهل مثل هذه الأمور عند الإختيار . و هكذا يمكننا أن نؤيد الرأى القائل بأن هناك معايير أخرى أُخذت فى الإعتبار , فبالإضافة إلى المعايير الفنية و الجمالية الخالصة , كان الإختيار يتطلَّب الأخذ فى الإعتبار معايير ذات طابع سياسى و أيديولوجى أو فكرى . فى الواقع , عندما يكون تقدييم الشاعر متوقفاً , و بصفة أساسية , على رأى الغالبية من الجمهور و أيضاً على السلطات الحكومية , فمن غير المعقول أن نفترض أن الشاعر قد ظل محايداً أو بعيداً عن الصراعات السياسية و الفكرية السائدة فى عصره .

و مما لا شك فيه , أن نظام الإختيار الذى كان يعتمد كأساس مبدأى على الرأى العام للجمهور كان فى صالح الشعراء المعروفين . و نتيجة لهذا , كان أول ظهور لأى شاعر جديد أو حتى مجهول , يلعب دوراً حاسماً و هاماً لمستقبل مشواره الفنى . فإن هو حاز على قبول الجمهور, كان من حقه الإعتقاد أن الحظ سيكون حليفة كذلك فى المستقبل . , و إن كان الفشل حليفة , كان فرص النجاح قليلة جداً للحصول لمرة ثانية على كورس . و كان من الطبيعى أن يحدث أخطاء عند الإختيار , و لكن طبقاً لما وصل إلينا من معلومات , كان حدوث هذا يتم نادرا ً. (65)

و كانت الخطوة الثانية للحاكم أن يجد أفراد من الشعب لتحمل تكاليف و أجور تعليم الكورس . و كان يُطلق على هؤلاء الأفراد Χορηγοι - و هى كلمة تعنى فى الأساس " قائد الكورس " , و لكن صارت هذه الكلمة فى وقت متأخر تعنى الممول الذى قامت الدولة بتكليفه . ( 66) و فى العادة كان المرشحون لهذا الشرف المكلِّف جداً يقومون به تطوعاً . و فى حالة عدم وجود متطوعين من تلقاء أنفسهم , كان للحاكم الحق فى تكليف فرد مناسب من طبقة الأغنياء . و كان تولى التمويل يعتبر خدمة عامة للدولة (( Λειτουργια و لهذا كان يُشكِّل واجباً لكل مواطن حُر ‘ و فى أعياد اللينايا كانت من مهام الأجانب المقيمين فى أثينا . (67) و كل فرد يعتقد أن تكليفه تم بطريق الخطأ أو بدون وجه حق فى هذا العبأ الإضافى , كان له الحق أن يقترح بديلاً له شخص آخر, أكثر ثراءً منه طبقاً لوجهة نظره. و لكن فى هذه الحالة , وجب عليه أن يضع فى إعتباره , أن الشخص المقترح فى إمكانه أن يقترح بدوره " تبادل الثروة " فيما بينهما , و هذا ما كان يجب أن يتم فى الحال . و هكذا , كان فى إمكان المرشح الأول , أن يُطالب بالتكلفة و المصروفات من ثروة شخص آخر بلدياته ‘ أما إذا كان لا يحمل أدلة كافية تُثبت رأيه , كان عليه أن يكون حذراً جداً و أن يتجنب إلقاء عبء هذه الخدمة على أكتاف الآخر.

و كان لكل جوقة ممول يتحمَّل كافة المصروفات , و هذا يثرى على كل من الشعر الديثرامبى و كذلك الشعر الدرامى . لأن فى المسابقة التراجيدية كانت الأعمال الثلاثة أو الأربعة لأحد الشعراء تُشكِّل وحدة واحدة , بينما فى المسابقة الكوميدية كان كل عمل كوميدى مُستقل , كانت تحتاج, فقط لأعياد الديونيسيا الكبرى, حوالى 28 ممول على الأقل . (68) و كان على الممولين تحمل كافة أعباء المغنين ( الراقصين) و كافة متطلبات العرض الأخرى . و كان يتم تخصيص الممول لكل شاعر عن طريق القرعة.

و من المهام الأولى للممول هى توفير أعضاء الكورس له . و كان إيجاد الراقصين للجوقة الديثرامبية يتم إعداده داخل القبيلة, بينما فى الجوقة الدرامية كان فى إمكان كل مواطن حُر أن يُشارك فيها . و كان رفض المشاركة ممنوعاً , و كل من لا يطيع أوامر الممول الذى كان يُمثل بشكل أو بآخر سُلطة الدولة , كان عُرضة للعقاب بغرامة مالية . و لكن لم يكن من حق الممول تجاوز سلطته بالسماح بمشاركة شخص يكون القانون قد منعه .

و كان على الممول خلال شهور التدريب الألتزام بكفالة جميع أعضاء الجوقة و كذلك مُدرب الرقص و العازف . و بهذا , تم منحه الفرصة كى يبرز كرمه و سخاءه و كذلك لكى يكسب الود و التقدير من الجمهور . (69) و كان للجوقة الحق ليس فقط فى الغذاء و لكن أيضاً فى الحصول على مصروف يومى, تعويضاً لهم عن الخسارة المادية لتوقفهم عن العمل طوال فترة الإعداد و عمل البرؤوفات . و بعد العرض كان يحق لهم الإستضافة و تحمل إقامتهم الأخيرة.( 70)

و يتحمَّل الممول أيضاً تكلفة الأقنعة و الملابس المسرحية . و لا يجب أن يكون الشكل العام للعرض المسرحى متواضعًا , بل أن يكون مبهرأً و مدهشاً و فقد كانت هذه الأمور تشد إنتباه الجمهور و تترك لديه إنطباع طيب عن العرض . ومن المؤكد أن أى ممول إذا أراد الحد من النفقات , كان فى إمكانه , على الأقل فى العصور المتنأخرة نسبياً , أن يستعير ملابس( 71).

بالإضافة إلى ما ذكرناه من إلتزامات , كان يُطلب فى كثير من الأحيان بعض الأعباء الإضافية من الممول لأستكمال بعض الإحتياجات الضرورية المطلوبة للفرقة المسرحيةΠαραχορηγημα (72) . فقد كانت هذه الشخصيات المضافة تتبع نوعين مختلفين :

1. شخصيات هامة لتطور الحبكة, و لأسباب فنية , كان عليهم أن يظلوا صامتين إما مؤقتاً و إما بصفة دائمة, و هكذا قام بتولى هذه الأدوار بعض الكومبارس(73)‘

2. كأدوارالخدم و الأتباع و كان هؤلاء أيضاً كومبارس فى الأساس . و مثال للمجموعة الأولى فى العصر الكلاسيكى يُعتبر بيلاديسΠυλαδης , الصديق الوفى و رفيق أوريستيس Ορεστης فى التراجيديات التى يتناول موضوعها قتل الأم ( 74) و يدخل فى إطار هذا النوع أيضاً الشخصيات ذات الحوار المحدود فىمشهد من المشاهد و لهذا لم يُنظر إلى هذه الشخصيات كممثلين أساسيين و عادة ما تكون أدوار للأطفال.

و عندما تطلب العمل الدرامى هذا , كان على الممول أيضاً الألتزام بتحمُّل تكاليف تعليم و تدريب جوقة إضافية كاملة . كان هذا يحدث دائماً فى النصف الأول من القرن الخامس ق.م., عندما كانت الجوقة هى مركز الثقل و تلعب دوراً محورياً فى الدراما . (75) فقد كانت هذه النفقات تمثل عبءأً كبيراً على الممول , و هكذا لا يدهشنا على الإطلاق إذا علمنا أنه مع مرور الوقت تحولت الجوقات المزدوجة إلى جوقة واحدة و أصبحت نادرة الحدوث.

وعلى العكس , كان وجود الكومبارس شيئاً بديهياً . فالخدم الذين كانوا يساعدون فى تقديم الأضاحى أو الحراس المسلحون رمزالسلطة الملكية أو العسكرية (76) كانوا من الضرورى وجودهم حتى ولو لم تكن هناك إشارة واضحة فى النص المسرحى تشير إليهم .

ففى المسرحية الساتيرية الوحيدة التى وصلتنا من أعمال يوريبيديس , كانت الجوقة ترافق قطيع من الغنم, الذى , بعد محاولات فكاهية هزلية عديدة لهرب مقدمة القطيع , كان يقوده مجموعة من الخدم ( 83) فى داخل الديكور المصمم أى فى كهف الكيكلوبس . و من المؤكد و الواضح أن نفترض أنه لم يكن هناك أى قطيع من الغنم حقيقى , بل شباب أثينيون مقنعون , و بالتالى كان هذا تكلفة إضافية παραχορηγηματα(77).

و نستنتج من كل هذا أن تكلفة التمويل بصفة عامة , كانت كبيرة جداً . و ما يتعلق بالدراما و بصفة خاصة الكوميديا كانت النفقات الأساسية تكمن فى المهمات المسرحية و التدريب و الإعداد . بينما نجد فى الجوقات الديثرامبية عدم وجود هذه المهمات المسرحية و لكن كان يقابله فى قيمة التكلفة , العدد الكبير لأعضاء الجوقة الديثرامبية ( 50 راقصاً فى الجوقة الديثرامبية فى مقابل 12 – و فيما بعد 15 – للتراجيديا و 24 للكوميديا ) (78) . و كان طبيعياً فى أوقات الأزمات الإقتصادية العثور بصعوبة على الممولين الضروريين . و هكذا نجد فىأعياد الديونيسيا عام 405 ق.م . قد وجدوا حلاً للمشكلة عن طريق توزيع الأعباء الإقتصادية لكل عمل درامى على ممولين إثنين . ( 79)

و مع نهاية القرن الخامس و بداية القرن الرابع ق.م . حدث تحول و تغيير فى البناء الدرامى أسهم فى حل بعض مشاكل إخراجية هامة . و فى أعمال أرستوفانيس الأخيرة نلاحظ أنه قام بتقليص دور الكورس مقارنة بعُنصر الحوار, و تخبرنا المصادر القديمة أنه قد حدث نفس الشىء للتراجيديا و فى نفس الوقت . ومع ذلك , لا يمكن ربط تقليل دور الكورس بالتدهور الإقتصادى أوعلى أنه رغبة شخصية من الشعراء للحد من النفقات الباهظة أثناء الإعداد و التدريب . ولكن فى احسن الأحوال , من الممكن تأييد الرأى القائل بأن هذا التطور الذى بدأ تدريجياً فى الظهور , كان بسبب حالة التشاؤم العامة بعد هزيمة أثينا – وتعتبر نوع من الهروب و الإبتعاد عن الواقع السياسى الإجتماعى إلى المجال الخاص و الشخصى . و هذه الظاهرة تبدو بوضوح فى المسرحيات الكوميديا , فقد كان من طبيعتها أن تعكس الواقع و محاولة تقديم صورة له بدرجة أسرع من التراجيديا . و فى الواقع , فى مثل هذا العمل , كان الكورس الذى يمثِّل مجموع شعب أثينا , لم يعد ذو أهمية . (80) و يُلاحظ نفس التطورات فى التراجيديا : فقد توقف أن يكون للكورس دوراً مهماً بصورة تدريجية فى التراجيديا , التى اهتمت بالبُعد النفسى أثناء عرض صراع الشخصيات . ففى أعمال أجاثون Αγαθων تقلص دور الكورس إلى مجرد عنصر موسيقى راقص مُقحم على العمل الدرامى , و ليس له علاقة مباشرة بتطور الحبكة الدرامية . و يعنى هذا التحول , تخفيف عبء إقتصادى كبير عن الممِّول , لأن بهذه الطريقة تقلص و بصورة كبيرة جداً زمن التدريب و البروفات المخصصة للكورس .

و على الرغم من الصعوبات التى كانت تواجه الكوميديا من وقت لآخر ، استمر عنصر التمويل كعُرف سارى المفعول , على الرغم من التدهورالسياسى الحاد لأثينا و الإضمحلال المؤقت للديموقراطية, و هو النظام السياسى و الإجتماعى الذى استمد منه وجوده . و فى الواقع , مجرد إنتهاء الحرب البلوبونيسية , زاد مرة أخرى عدد الكوميديات التى عُرضت فى المهرجان إلى خمسة . و ظل إهتمام الأثينيين بمسرحهم بلا إنقطاع و استمر لقب ممول يحظى بجاذبية كبيرة و إهتمام من قِبل الكثير من مواطنى أثينا . بالتأكيد تقلصت تدريجياً دائرة المرشحين لنيل هذا الشرف اكثر فأكثر , بسبب التدهور الإقتصادى للمدينة . و أخيراً , فى ظل حُكم ديميتريوس فاليرياس Δημητριος Φαληρεας( حوالى 315 ق.م.) , تم إلغاء هذا العُرف الديمقراطى المميَّز ,الذى ظل لمدة قرنين متواصلين يُساهم بكل قوة فى إبراز و تشكيل الإطار العام للعروض الدرامية . فقد تحملت الدولة مباشرة مسئولية المسابقات . كان يتم إختيار مسئول واحد يتولى مهمة تأمين نفقات التدريب ( التى لم تكن إلى حد ما كبيرة , و لكن ظلت باهظة التكاليف كى يتحملها شخص واحد) و ذلك من بنود خزينة الدولة . و تم الإحتفاظ بالمصطلح القديم : " كان الممول هو الشعب" و هو ما نتعرف عليه فى كثير من الإشارات (81).

و لم يهتم الممول على الإطلاق بأمور التدريب و البروفات, فقد كانت من إختصاص أحد المحترفين فى هذا المجال . فقديماً كان الشعراء فى أثينا يقومون بإخراج أعمالهم المسرحية بأنفسهم , و كان من البديهى أن يتولوا أيضاً مهمة الممول. و كما نعلم لم يكن هناك أى إستثناء لشعراء التراجيديا من هذا القانون الذى كان على كل شاعر أن يلعب الدور المحورى و المنفِّذ الفعال للعرض المسرحى . و لم يكن يستثنى من هذا سوى الأعمال المسرحية التى كانت تُعرض بعد وفاة الشاعر فكان يتولى إخراجها آخرون. فقد فاز أريستياس Αριστιας, إبن الشاعر براتيناس πρατινας فى عام 467 ق.م. بالجائزة الثانية بأعمال والده , و فاز أيضاً يوريبيديس الإبن عام 406 ق.م. بأعمال والده المتوفى , و كان من بين هذه الأعمال " عابدات باخوس Βακχες" و كذلك " إفيجينيا فى أوليس Ιφιγενεια η εν Αυλιδι" . و من هنا فإن العرض المرسوم على الآنية الفخارية" لبرونومو Προνομου " ,( 82) و الذى يُشير إلى جلوس الشاعر فى مكان المخرج حاملاً فى يده لفائف بأوراق المسرحية , وهو ما كان يحدث فى الواقع . و من منتصف القرن الرابع ق.م. عندما كانت الأعمال القديمة يتم عرضها بصورة مستمرة , إنتقلت مهمة الإخراج تدريجياً إلى أيدى الممثل الأول .

و العكس من ذلك , لم يكن ضرورياً على الإطلاق أن يقوم شاعرالكوميديا بمهمة الإخراج (83). فنحن نعرف أن أريستوفانيس كان دائما يُكلف آخرين للقيام بمهمة إخراج أعماله الكوميدية . و لا نستطيع إلا أن نقدم مجرد تصورات عن أسباب هذه الظاهرة . فقد بدأ أريستوفانيس الكتابة فى سن صغيرة جداً وبالتالى لم

يكن يثق فى قدراته الإخراجية . و يعترف هو بنفسه بأنه أراد أولاً أن يتجاوز كل المراحل الصعبة للفن, قبل أن يقدم للجمهور إخراجه الشخصى (" مسرحية الفرسان" سطر 512 و ما بعده ) . و لكن حتى فى اعماله المتأخرة لم يتردد فى تكليف آخرين مهمة تدريب الكورس , و ربما يكون بسبب عدم توافر موهبة شخصية لديه فى هذا الإتجاه. فمن الأحد عشرة مسرحية التى وصلت إلينا سليمة ثلاثة منها قام بإخراجها كاليستراتوسΚαλλιστρατος و قام فيلونيزيس Φιλονιδης بإخراج عملين آخرين من أعمله هذه . و يتضمَّن هذه الأعمال, و ربما لا يكون هذا صدفة , أهم أعماله الكوميدية جماهيرية و ذائعة الصيت مثل : " الطيور" Ορνιθες, ليسيستراتي Λυσιστρατη و " الضفادع " Βατραχοι . و قد قام إبنه , أراروس Αραρος بعرض آخر أعماله الكوميدية ( مفقودة الآن) وهى " كوكالوس" Κωκαλος و ليولوسيكوناسΛιολοσικωνας , و بهذه الأعمال كسب شهرته لدى الجمهور . و لم يكن أريستوفانيس هو أول من أبتدع هذه الطريقة ,(84) و لكن لأنه الوحيد التى وصلتنا معلومات مؤكدة عنه, بفضل ملاحظات بعض كُتاب الإسكندرية عن التدريب , التى قدمتها المخطوطات .

و إذا ما تخلى أحد الشعراء عن إخراج عمله بنفسه, قام أحد المحترفون بأخذ دوره فى تدريب الكورس, و كان يُطلق عليه إسم مُدرب الكورس أو" المُعلِّم" (85). و أُستخدمت هذه الكلمة أيضاً للشاعر الذى كان يقوم بنفسه تدريب عمله هو , و نتج عن هذا أن مُصطلح مُعلِّم و شاعر تُعتبر تقريباً مترادفان . (86) و على الرغم من ذلك , وجود إحتمال لأى خاط أو سوء فهم بينهما غير وارد تقريباً. و هكذا, نجد فى مسرحية " أهل أخارناى" ( و هو عمل لم يقم المؤلف بإخراجه بنفسه) يقول الكورس فى القسم الخاص بالبراباسيس Παραβαση "مُعِّلمنا" (628) , نظرياً يمكن أن يعنى هذا إما الشاعر أريستوفانيس و إما المُخرج كاليستراتوΚαλλιστρατος . و لكن الجمهور , الذى كان يعرف من خلال الإفتتاح التمهيدى , إن لم يكن قبل ذلك , المؤلف الحقيقى و ميَّزه عن المخرج,(87) فمن الممكن أنه كان يدرك أن المقصود هو الشاعر, الذى لم فى إمكانه أن يظهر فى العرض.

و تعيين معلم رقص للكورس الديثورامبوس كان ظاهرة مؤلوفة أكثر مقارنة بالجوقات الدرامية الأخرى , و ذلك كان بسبب أن شعراء الديثورامبوس حسب العُرف ليسوا أثينيين, و لهذا لم يُشاركوا فى عملية استعدادات العيد . و الممول الذى كان يمثلهم تولى مسئولية تكليف شخص قدير بما فيه الكفاية لتعليم الجوقات الخاصة بهم.

و عندما كان الشاعر الكوميدى أثينى المولد, كان تعيين مُعلم للكورس من الواضح أنه كان يتم بطريقة مختلفة. فمن واقع ملاحظات التدريب الخاصة بأرسظوفانيس نلتقى بصفة دائمة بإسمين و منه نستنتج أن الشاعر كان يختار بنفسه المخرج. فى هذه الحالة كان دور الممول يقتصر على تقديم الأموال.

ب - البروفات و التدريب

بعد أن يتم تكوين الفرقة المسرحية ( و هذا ما كان يتم كل عام منذ البداية، و ذلك لأن المسرح لم يعمل كعُرف دائم طوال العام ) كانت الخطوة التالية هو إيجاد مكان مناسب للتدريب . و كان هذا أيضاً من ضمن مهام الممول, تماماً مثل المسائل التنظيمية الأخرى.(88) و إذا ما وضعنا فى إعتبارنا أنه كان يتم تدريب أكثر من 24 جوقة فى وقت واحد فى أثينا لشهور أو أسابيع قبل الديونيسيا الكبرى ، ندرك فى الحال أن إيجاد مكان للتدريب أو عمل البروفات لم يكن بوجه عام مشكلة صغيرة. ليس مُستبعداً إستخدام بعض المبانى العامة مثل الأوديون( قاعة الموسيقى ) و الرواق الملكى لهذا الغرض،( 89) لكن فى كثير من الأحيان كان الممول ملزماً بالبحث عن أماكن خاصة، و هى إما أن يقدمها بنفسه و إما أن يقوم بإستئجارها بماله الخاص . و فى أحد أقوال انديفونداس يشدد المتهم أنه خلال فترات التمويل المتعددة التى قام بها ، خصَّص منزله كمكان لتدريب الجوقات التى كُلف بها.(90) فقد تطلَّب التمويل، كما يبدو، بعض التضحيات الشخصيةو فى هذه الحالة بالذات وُجد المتهم مُتورطاً فى قضية قتل أحد الأطفال فى الجوقة. و يبدو أن لبعض الوقت تم إستخدام مكان خاص فى أثينا من أجل القيام بعمل البروفات التراجيدية، و على وجه التحديد أحد مبانى فى حى ميليتيسΜελιτης. و لكن المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع مكتشفة حديثاً و غير واضحة تماماً، و بهذا لسنا فى وضع يسمح لنا بمعرفة شيئاً معيناً عن عُمر أو إستخدام هذا المكان.(91)

و لأن أعضاء الكورس كان يتشكَّل من مواطنين هواة، كانت على البروفات أن تبدأ مبكرأ نوعاً ما، خصوصاً عندما كان يجب إعداد ثلاث تراجيديات و دراما ساتورية. و كان فى إمكان الممثلون أن يبدأوا بسهولة البروفات فى وقت متأخر نسبياً – تماماً كما يحدث اليوم لأحد الموشحات الدينية التى يُشارك فيها عازفون Σολιστεςمدعوون . لكن فى ظرف معين لم يكن مستحيلاً أن يعمل كتاب تراجيديا القرن الخامس ق.م. بالطريقة التى يُشير إلى الحكاية المعروفة عن ميناندروس.(92) و ذلك عندما سُوئل عن إشتراكه ، مع إقتراب موعد الإحتفال بمهرجان العيد، أجاب أن الكوميديا جاهزة بالفعل فى عقله " و كل ما تبقى هو أن يكتب أبياتها" . و بالتأكيد كانت أعمال ميناندروس ، بفضل طبيعة الحوار بها، كان من السهل حفظها عن ظهر قلب عن طريق مجموعة ممثلين محترفين فى وقت زمنى قصير و يتم عرضها على المسرح 0 و لكن شيئاً كهذا لا يُتصوَّر حدوثه لمسرحيات القرن الخامس ق.م. ، بأبياتها المتعددة و جوقاتها الصعبة. بالإضافة إلى أن شعراء الكوميديا القديمة، الذين كان إهتمامهم بتقديم عرض كوميدى سريع ، نظراً لطبيعة موضوعات كوميدياتهم و موضوعاتها الحية المعاصرة لوقت عرض الكوميديات ، كان يجب عندما تتطلَّب الأحداث ، القيام ببعض التغييرات على النص، حتى و لو كان فى آخر لحظة، (93) لم يكن هذا مستحيلاً أن يكون جاهزاً فى وقت زمنى قصير.

و يقدم لنا كسينوفونΞενοφων إحدى الأفكار عن الظروف الصعبة التى كانت تسود وقت البروفات الخاصة بالجوقات و ضغوطها. و فى عمل ايرونا Ιερωνας يذكر تدريب الجوقة كنموذج أساسى للتجربة الشاقة التى كان يفرضها الحاكم على شخص أقل درجة منه( المدرب) ، بل يعتبرها كنوع من التدريب العسكرى الحاد و يُقارنه بمنح الجوائز الشرفية التى يقوم بها و يتكفلها بالطبع الحاكم نفسه. ( 94) وبالتالى ، فمهما تكن طبيعة العمل و ظروفهو بصفة أساسية الوجبات الغذائية الفخمة التى كان يقدمها الممول إلى أعضاء جوقته كانت أقل تعويض يستحقونه عن المثابرة فى العمل لعدة أسابيع.

و كانت الأمور أكثر بساطة للممثلين. فلحفظ أدوارهم كان يكفيهم مكان جانبى هادىء، إما فى منزل و إما فى الخلاء الطلق‘ (95) فمن اللحظة التى يكونوا فى وضع يسمح لهم بإنشاد جيد و مُعبر لأدوراهم ، كانوا على وجه التقريب جاهزين. و كانت البروفات و التدريب النهائى مع الجوقة كان يكفى تخصيص ( و ينطبق هذا على التراجيديا على الأقل) أيام قليلة قبل العرض المسرحى. و من لواضح أن العمل الأساسى للمخرج لم يكن له علاقة بتوجيه الممثلين، و لكن لتدريب أداء الأغانى و حركات الجوقة على الأوركسترا.

ج - النقاد

كان إختيار وتعيين النقاد ، (96) الذى يعتبر المرحلة النهائية فى هذه الإجراءات, و كانت تتم قبل العروض لمسرحية بوقت قليل. و قد شكل إختيار الأفراد الذين سوف يتولون تقييم الموهبة الشاعرية و إمكانات التمثيل للمتنافسين إهتماماً عاماً، لأن مشاركة الأثينيين فى المسابقات الدرامية كانت تتم بطريقة فعالة. و أعتبر النقاد أنفسهم ممثلين للمواطنيين الذىن تابعوا العرض، و لهذا السبب يذكر أرستوفانيس بصورة مستمرة كل من المشاهدين و النقاد معاً. (97) كل مرة يتوجه فيها إلى الجمهور لموضوعات فنية، كان يتحدث إلى بصفة أساسية إلى ممثليهم، أى إلى النقاد.

و لم يكن النقاد لجنة متخصصة و مكلَّفة بإصدار القرارات، و ذلك لأن لها صلاحية خاصة ‘ و ربما كانوا يتخذون قراراتهم بتلقائية و شعورهم الشخصى، تماماً مثل الجمهور المتواجد فى المسرح. و من البديهى أنهم لم يكونوا مجموعة متآلفة فيما بينهم. فعلى سبيل المثال كان بعض النقاد ينتظر من العمل الكوميدى اللهو و التسلية، و آخرون متعة فكرية اكبر. و فيما يتعلق بالتراجيديا كان النقاد المحافظون يتميزون أو بمعنى آخر يختلفون دائماً عن التقدميين و أصحاب الأفكار الحديثة .و بصفة عامة كان الشعراء يحاولون إرضاء مطالب الجماهير بأكبر قدر ممكن،( 98) وفى مثل هذه الظروف ، كان من المستحيل أن يتجاهل الشعراء رغبات الجمهور و ما يمكن أن يستوعبه الأكثرية منهم عن أن يظهروا كمعلمين لهم . و كل شاعر لا يستطيع تحريك مشاعر الجمهور، و كل من لم يكسب جائزة لسنوات كثيرة ، شعر بخطر عدم إختياره مرة أخرى من الحاكم فى المسابقات القادمة. و كان هذا يعنى أن الشاعر الدرامى قد فقد تماماً أى إمكانية للتعبير عن رأيه .

و كان يُصدر قرار النصر أو الهزيمة لجنة، "المراقبون المحاسبون للجوقة الذين تركوا الخدمة" ، كما وصفها بنجاح يوبوليسΕυπολης ، عن نقلهم من الخدمة الحكومية .(99) و قد يكون من غير المحتمل ، بالتأكيد، أن نفترض أن أعضاء اللجنة كانوا يقررون عكس ما كان يستحسنه الجمهور‘ و متوافر لدينا معلومات تُشير إلى أن المشاهدين دائماً ما كانوا يمارسون على النقاد ضغوط عن طريق التعبير الواضح عن رضاهم و عطفهم .(100) و فى عام 468ق.م.عندما ظهر لأول مرة الشاعر سوفوكليس ذوالثمانى و العشرين عاماًو فاز فى الحال بالجائزة الأولى، يبدو قد أثار إنشقاق حاد فى الرأى بين المشاهدين.و بهذا أُضطر الحاكم Αρχων أن يستدعى مجلس القواد العشرة بدلاً من لجنة النقاد – و كان يوجد بينهم كيمونΚιμων. و قد مثَّل هؤلاء خير تمثيل القبائل العشرة و فوق ذلك كانت لهم شخصية إعتبارية لا غبار عليها – واقعاً كان له مغزى أكبر من أى معارف خاصة فى مجال الفن.

و طريقة إختبار النقاد كانت مُعقدة عن قصد ، و ذلك من أجل تحاشى الرشوة قدر الإمكان . من البداية، كان أعضاء مجلس كل قبيلة يختار بعض المرشحين، و يجب أن نفترض أن هذا كان يتم لكل مسابقة على إنفراد. و من الغريب أن فى هذا المرحلةالتمهيدية كان أيضا للممولين حق الكلمة، لأن بهذا الطريقة كان طبيعياً أن يشمل بالعطف بعض الأفراد الذين يميل إليهم. و كانت صناديق الإقتراع بأسماء المرشحين تُشمَّع بإستمرار و إهتمام و تُحفظ فى الأكروبول. و فى يوم المهرجان فقط, حيث يتواجد جميع المواطنين مجتمعين بالفعل فى المسرح، يتم الإختيار النهائى . و كان يتم إختيارشخص واحد من كل صندوق من صناديق الإقتراع العشرة‘ و النقاد الذين يتم إختيارهم بهذه الطريقة يقسمون علناً بأنهم سوف يحكمون بما تمليه عليهم ضمائرهم و بعد ذلك يشغلون مقاعدهم الشرفية. (102) عندها يمكن أن يبدأ العرض. و هذا الإجراء المُعتاد ربما كان يتم لكل المسابقات التى تتطلب يوماً واحداً أى للأشعار الديثورامبية و الكوميديا . فى هذه الحالات كان القرار الموضوعى للنقاد ، الذين كتبوا فى النهايةأسماء الفائزين على اللوحات حسب الترتيب من ناحية التفضيل و المميزات، مضمون. بالإضافة إلى ذلك يجب أن نعلم أنهم لم يعطوا أهمية للإقتراع السرى‘ فمن مقتطف لحديث ليسيا Λυσια نستنتج أن قرار الناقد كان يمكن أن يكون معروفاً للجميع . (103) بعد ذلك كانت هذه اللوحات توضع فى صندوق إقتراع ، و لكى يتم إتخاذ لقرار النهائى كان هناك إقتراع آخر عن طريق يتم سحب خمسة لوحات فقط من العشرة ، و يُلغى الباقى – و هو آخر إجراء تأمين، حتى لا يعلم أحد مقدماً أى المرشحين سيكون الفائز الأول فى النهاية . و قد أصبح رقم النقاد الخمسة مضرب الأمثال فى حالات التقييم و إتخاذ الأراء . (104)

و لكن ماذا كان يحدث مع المسابقات التى تدوم ثلاثة أيام متصلة، أى مع المسابقات التراجيدية و الكوميديةفى فترات الحرب؟ فى هذه الحالة فقط كانت توجد شكوك حقيقية بتدخل غير مشروع أو رشوة النقاد . لم يكن مُستبعداً ضمان عملية الإنصاف عن طريق إجراء الأقتراع فيما بين النقاد المرشحين فى بداية ثالث يوم المسابقة.

و يؤكد U.v.Wilamowitzعلى سيادة التيار المُحافظ على نظام التقييم و التحكيم من قبل أشخاص غير متخصصين.(105) و هذا التيار يبدو واضحاً فى طريقة إختيار سوفوكليس و تفضيله على يوريبيديس‘ و على الرغم من كل هذا ، كانوا يجددون بلا إنقطاع ليوريبيديس القلق و المعترض على كل ما هو سائد و متعارف عليه، إمكانية تقديم أعماله، ومهما يكن من أمر فهذا واقع يرفع من شأن الأثينيين و يشرفهم.

التعسُّف أو الظلم البارز قد يكون نادراً ‘ فليس لدينا أدلة تتعلَّق بهذا الموضوع.(106) و لكن ما يثير الدهشة حقيقة أن مسرحيات " أوديب ملكاً ، و ميديا " – مسرحيتان تعتبران اليوم من أفضل التراجيديات – لم تكسبا الجائزة الأولى. بالتأكيد يجب أن نضع فى إعتبارنا أن التقييم كان يتعلق بالرباعية كاملة، و يبدو فى هذا الخصوص أن المسرحيات الباقية كانت أدنى منزلة ، و هذا ما لعب دوراً هاماً فى التقييم الإجمالى. على أى حال، كانت قرارات النقاد موقرة – حتى من قبل الأسكندر الأكبر. عندما قام الأسكندر الأكبر فى عام 331ق.م. بتنظيم المسابقات التراجيدية الفخمة و المبهرة فى فينيكىΦοινικη ، عبَّر عن رضاه و إمتنانه للممثل ثيسالوθεσσαλος، على الرغم من ذلك ، لم يكسب الجائزة الأولى، بل فاز بها أثينوذوروس Αθηνοδωρος. (107)

د - الألقاب الشرفية و الهدايا

ظل عمل الممول حتى هذا الوقت فى الظل و غير ملحوظ، فقد كان إهتمامه منصب على إنجاز كافة الإستعدادات و بدون أى عقبة. و لكن يحل يوم العيد، كان فى إمكانه الظهور علناً و أن يتقبَّل بعض مظاهر التكريم الشرفية مكافأة له على ما تكلفه من نفقات كبيرة. ففى حفلة الإفتتاحΠροαγωνας يقومون بمنحه وضعاً مميزاً ؛ فالآن الموكب الإحتفالى الكبير الذى منحه الفرصة أن يجذب إليه الإنتباه عن طريق فخامة ملابسه الإحتفالية، فقد إحتل منزلة فى الديونيسيا لا تنقص إلا قليلاً عن منزلة الكاهن.( 108)

و كان من الطبيعى أن يكون طموح الممول تأمين أمور فوز الجوقة التى كُلِّف بها. ما كان يحدث فى هذه الحالة نتعرَّف عليه بصورة أفضل من خلال فوز الجوقات الديثورامبية. فمموليهم، كممثلين للقبيله الفائزة ، فهم لم يكسبوا فقط الأكليل الديونيسى من اللبلاب، و لكن أيضاً "حامل ثلاثى القوائم" Τριποδας، و هو جائزة ممنوحة من الدولة.(109) فى نفس الوقت تعهدوا بإقامة نصب تذكارى على نفقتهم الخاصة تخليداً لذكرى الفوز. و كان يجرى هذا بجوار مسرح ديونوسوس، على الجانب الشرقى من الأكروبول’ من هناك كان يمر طريق يتجه إلى السوق يُسمى " الحامل ثلاثى القوائم". و هو طريق قديم يربط بين مكانين مقدسين لديونوسوس و كان يُحاط بمآت القوائم الثلاثية التى كانت تخلِّد الإنتصارات.(110)و كان الممول فى البداية يكتفى بإقامة قاعدة بسيطة لأستقبال هديته ذى ثلاث قوائم أو قاعدة بكتابات تتعلق بمناسبة فوزه بالحامل ثلاثى القوائم. و خلال القرن الرابع ق.م. أخذت هذه القوائم الثلاثية تدريجياً صفة النُصب التذكارية، وفى الوقت الذى كان فيه الممولون يهتمون بإبراز مكانتهم المرموقة، كان التنافس فيما بينهم على الأنفاق الأكثر. (111) وكنموذج لهذا النوع المعمارى يُعتبر النصب التذكارى لليسيكراتىΛυσικρατης ، الذى شُيَّد فى عام 335/4 ق.م. عبارة عن معبد صغير دائرى الشكل من المرمرعلى قاعدة متوازية السطح ، و على سطحه وضع قائم ثلاثى القوائم فى حجم غير طبيعى.(112)

و على هذه القواعد الكثيرة و الكتابات المنقوشة نقرأ إسم القبيلة الفائزة و بعد ذلك إسم الممول وإسم المدرب . يتلو ذلك التاريخ الذى كان يعطى مع إسم الحاكمΑρχων و من القرن الرابع كان يشير إلى إسم العازف.

ممول المسابقات الدرامية الذى لم يكن يتبع قبيلة معينة ، بل مثَّل فقط جوقته لم يفوز قط بأى منزلة شرفية رسمية كمكافأة . و من هنا كان قرار تخليد ذكرى النصر موضوع شخصى لكل من الممول و الشاعر. على أى حال كان أى نصر يتبعه تعريف عام و تكريم فخم . و قد قام الباحث E. Reisch بتجميع المعلومات عن هدايا الممولين للمسابقات الدرامية سواء كانت فى نص أو نقش.(113)

3- المبانى الإنشائية

أ‌- مسرح ديونوسوس فى أثبنا

كل الدرامات تقريباً التى كُتبت فى القرن الخامس ق.م. عُرضت أولاً على مسرح ديونوسوس.(114) بالإضافة إلى ذلك ، فقد كان و لفترة زمنية كبيرة المسرح الوحيد، و من أجل هذا ، عند بحث الظواهر التاريخية يجب أن نضع فى إعتبارنا منذ البداية الواقع الأثينى . فقد تبقى اليوم من الشكل المعمارى البدائى للمسرح بقايا قليلة.(115) و هذا يرجع إلى كل من تاريخ الإنشاءات المعمارية و أيضاً إلى الحقيقة أن لأكثر من 500 عام بلا توقف عُرضت أعمال مسرحية والتى فى كثير من الأوقات كانت تتطلب تقنيات فنية جديدة ، و بهذا خلقت ضرورة حدوث بعض التغييرات و أيضاً إضافات معمارية جديدة.و لهذا السبب فإن أول تعارف و أول تحليل لبعض الأجزاء المعمارية سيكون اكثر جدوى أن يتم على أحد المسارح مثل مسرح إبيدواروسΕπιδαυρος( لوحة رقم1) و ذلك ليس فقط بسبب أن ضبط و تنفيذ الخطة المعمارية تتطابق تماماً، و لكن أيضاً لأنه قد حافظ إلى حد كبير على شكله البدائى و أيضاً ، بالإضافة إلى ذلك فإن حالته اليوم جيدة جداً. (116) و لكن محاولة إعادة ترتيب وجوه تطور المسرح الأغريقى يقودنا رغماً عنا إلى مسرح ديونوسوس. و نرى عن قصد أن نبدأ من هذا، واضعين فى الإعتبار النصوص الدرامية التى وصلتنا سليمة ، وذلك كما هو معروف بسبب وجود علاقة حميمة بين التطور الدرامى و بين ما تم تحقيقه من إمكانات تقنية و فنية .

النواة الأولى لمسرح ديونوسوس ( و أيضاً، جميع مسارح اليونان عامة) هى معبد ديونوسوس المخلّص ‘ على المنحدر الجنوبى للأكربول الذى كان يتميز بواجهه عكس تجاه المدينة. و فى المكان المجاور وفى داخل الفناء المقدس تطور تدريجياً ، إعتباراً من القرن السادس ق.م. و فيما بعد، أول بناء مسرحى . (117) وقد إكتمل مبكراً نسبياً تشكيل الصورة المميزة للمسرح الإغريقى لجميع العصورالتى – بالقياس مع إختلاف وظيفة كل من الكورس و الممثلين و المشاهدين – تُقدم تقسيم ثلاثى للمكان ، و فى المقابل يوصف كوحدة تنظيمية متكاملة متناسقة ، يلاءم الأعمال التى لها جذوردينية قوية و التى يُشارك فيها جميع المواطنين . و لم يكن هناك أى ستائر أو حواجز على الأوركسترا تفصل بين الشخصيات التى تلعب الأدوار فى المسرحية و بين جمهور المشاهدين . و كان مكان العرض و مكان المشاهدين يُضاء من نفس ضوء النهار الطبيعى.

و إذا تذكرنا أن ميلاد الأنواع الدرامية ترجع إلى الرقص وأغنية الجوقة، عندئذ يجب أن نعين موضع أقدم قسم للمسرح فى نطاق الأوركسترا ، و هو الجزء المخصص للجوقة. فقد كان على الجمهور فى البداية أن يقف حول الأوركسترا فوق المنحدر، و جلس فى ما بعد على مقاعد خشبية . و قد مر وقت كبير حتى يأخذ المسرح الحقيقى (118) شكل التجويف المقعَّرcavea الذى تم تصميمه عن طريق حفر منحدر الأكروبول. و أخيراً ، كانت الخيمة هى المكان المخصص للممثلين ‘ و هذا الجزء من المسرح ( لوحة رقم 2) إكتسب فى النهاية شكله المحدد. فى البداية كانت المنصة عبارة عن كوخ خشبى غير ثابت بجانب الأوركسترا كانت تستخدم كغرفة ملابس و مخزن للمهمات المسرحية.(119) و أحد الخطوات المهمة فى مشوار تطور المسرح اكتملت عندما قام إيسخيلوس بدمج هذه الخيمة أو الكوخ الخشبى إلى العمل المسرحى(120) الخيمة التى كانت تُشكَّل خلفية للمكان المسرحى ، سهلت بالإضافة إلى ذلك دخول و خروج الممثلون من الباب الرئيسى . من الآن و صاعداً جلس الجمهور على شكل نصف دائرى أمام الخيمة بينما كان المكان الضيق الذى يقع بين الخيمة و الأوركسترا أهم مكان لعمل الممثلين ، ( مكان الحوار أو الحديث)) (το λογειον)و هو الجزء الأمامى من المسرح ) . هذه "الخيمة أو المقدمة" فى البداية كانت مستوية تماماً ‘ و لكن فى وقت متأخر تم رفعها لعدة درجات فوق مُستوى الأوركسترا،(121) و ربما كان ذلك حتى لا ُتخفى الجوقة الممثلين عن الجمهور.

و قد بدأ التجديد الجوهرىو توسيع مسرح ديونوسوس فى بداية حكم بيركليس ‘ و إكتملت تدريجياً على مدار أكثر من نصف قرن. وربما يرجع هذا النشاط المعمارى إلى الرغبة فى دمج البناء المسرحى إلى إلى الفعل الدرامى ‘ و ذلك كى يتوافق و الكتابة المسرحية للعصر الكلاسيكى.(122) و سبب آخر ربما يجب أن نبحث عنه فى الخوف الذى أثاره سقوط المقاعد الخشبية التى كان يجلس عليها الجمهور.(123) بالإضافة إلى ذلك ، كان يجب تأمين مكان للبناء المسرحى على جانب المنطقة الجنوبى و أيضاً للمقدمة الأمامية مكان الحوار ، التى كانت توجدأمام خشبة المسرح، فقد كان من الضرورى أن تنتقل الأوركسترا و أن تقترب أكثر من منحدر الأكروبول. فقد تم تسوية السطح المنحدر من جديد و تقويته بحائط طولى للحماية. و تم تصميم حفرة حول الأوركسترا التى إنتقلت تجاه الشمال الشرقى حوالى 12 متراً و ذلك لتصريف مياة الأمطار نحو الجنوب الشرقى بمساعدة قناة تحت الأرض. و قد تتطلَّب بعد هذا التغير تهيئة مكان الجمهور أيضاً فوق أرض أكثر إنحدارأً . و من أجل هذه التهيئة تم بناء بعض الدرجات من السلالم و تم تزويده ، كما كان الحال فى الماضى، بمقاعد خشبية. (124) و قد تم تقديم عناية خاصة بصفوف المقاعد الأمامية فقط ‘ فقد تم وضع مقاعد شرفية خاصة فوق الأساس الحجرى – و هو ما يُطلق عليه " المقاعد الرئاسية" προεδρια - التى كانت مُخصصة لكاهن ديونوسوس و أصحاب المناصب العامة الكبيرة فى الدولة .(125) و كانت الأحجام الطينية للتجويف المقعَّر و التى تبدو الآن أكثر ميلاً و إنحداراً ، تم تدعيمها عن طريق إنشاء جدران متعرجة ، على طول عرض المداخل التى تؤدى إلى الأوركستراو أيضاً إلى مكان الجمهور . (126)

و فى نفس وقت هذه التفييرات تقريباً، ربما عام 444 ق.م. ، أكتملت القاعة الموسيقية اديون بيريكليس.(127) يوجد هذا البناء الفخم و الكثير الأعمدة قريباً جداً من الجانب الشرقى للمسرح و لكنه خارج الفناء المقدس. بالإضافة إلى ذلك بنائين مخططين ، قد تم إنشائهما ربما بعد وفاة بيريكليس ، يشكلون أيضاً جزءأً من التصور الأوسع لما كانت عليه منطقة المسرح . و هكذا ، تم إنشاء رواق مُحاط بالأعمدة على طول الحائط الجنوبى المدعم للمسرح ، و ذلك على الجانب الأقل إنخفاضاً ، بطول سبعين متراً ، مفتوحاً ناحية الجنوب، و كان يصل إلى إلى المعبد بل و أخفاه عن نظر الجمهور. و مع المسرح كان له فقط علاقة غير مباشرة. و كان يُستخدم منه جزءاً صغيراً كمخزن للمهمات المسرحية، بينما أُستخدم الجزء الأكبر منه كمتنزَّة أو ملجاً عند هبوب عواصف شديدة. و المبنى الثانى الذى يقع بجوار المعبد القديم لديونوسوس ، كان ثانى أكبر معبد، الذى وُضع فيه تمثال مصنوع من الذهب و العاج قام بتصميمه النحات الكامينىΑλκαμενη. (128)

هذه هى الخطوط العامة لشكل المسرح الذى عرضت عليه جميع الأعمال الدرامية الكلاسيكية فى القرن الخامس ق.م. . وقد تم الحفاظ على القليل جداً من أثار هذه الخيمة الغير ثابته التى كانت النواة الأولى لخشبة المسرح فيما بعد : فقد تم العثور فى القاعدة الحجرية لرواق الأعمدة و للمكان المُعد كخشبة مسرح، على الجانب الشمالى ، عشرة حُفر على مسافات متساوية فيما بينها و كانت تُشكِّل بوضوح الأساس للأعمدة الخشبية ، التى كانت تسند عليها الأعمدة التى كانت تحمل خشبة المسرح. وأحد الأساسات الحجرية ، الذى يبرز تجاه الأوركسترا، يُعتبر أساس أو قاعدة ما كان يُسمى Εκκυκλημαو هى آلة كانت تُستخدم لعرض ما كان يُوجد فى داخل خشبة المسرح و كذلك لألة الرفع التى كانت تُستخدم عند ظهور أحد الآلهة.( 129)و يمكن أن نستقى بقية العناصر من خلال النصوص الدرامية. الشىء الوحيد المؤكد ، هو أن المبنى المؤقت للخيمة لعصر الدرامات الأولى قد تطور سريعاً و تحول إلى مبنى مزخرف فخم يتفق و جو الإحتفال. و فى نهاية القرن تقريباً كان المبنى المعمارى لخشبة المسرح يحتوى على ثلاث أبواب(130) و إذا إحتاج الأمر كان به أيضا نافذة ‘ بطابقين مع مقصورة مرتفعة لأظهار الآلهة το θεολογειον) ) و بالتأكيد لا نستطيع إثبات ذلك ، و لكن لأسباب فنية درامية تجعل من المحتمل جداً وجود جناحين (παρασκηνιων - لوحة رقم ا7) الذين يبرزان على جانبى المعمار المسرحى و كما كان يحدث فى وقت متأخر عندما أصبح البناء الغالب من الحجر. (131) و بهذه الريقة أكتسبت مقدمة خشبة المسرح الضيقة الطويلة و أيضاً قليلة العمق إطارها المحدد.

و نتيجة لهذا التجديد الشامل ، الذى إكتمل فى بداية القرن الرابع ، ظل مُصان و بقى على حالته لأكثر من خمسين عاماً . و يبدأ ثانية النشاط المعمارى حوالى عام 340ق.م.، و لكن لم تجلب معها أى تغييرات هامة – كان فقط مجرد إعادة تنظيم و صيانة و تجميل ما هو موجود بالفعل ‘ اليوم المكان المخصص للجمهور بكامله وخشبة المسرح مصممة من الحجر .

و يرتبط بهذه التغيرات إسم الخطيب و السياسى ليكورغوس، الذى يُشرف على على الشئون المالية للدولة فى ما بين عامين 338- 326 ق.م. و بفضل إدارته الناجحة صار هناك انفاق كبير على مسرح الديونوسوس بالإضافة إلى تنفيذ سلسلة من البرامج الإنشائية.( 132) و مات ليكورغوس عام 324 ق.م. ، قبل ظهور ميناندروس الرسمى بسنوات قليلة ‘ و بالتالى يُصبح ميناندروس مبتكر للأمور و الإضافات الدرامية التى سوف تُدعِّم الكوميديا الحديثة.

و مازال الجزء الحجرى المُقعَّر الأجوف الذى تم تخصيصه للجمهور فى حالة جيدة حتى اليوم. و التغيرات التى تمت فى أوقات متأخرة كانت تتعلق فقط بمقاعد الصفوف الأولى . و أحد الطرق القديمة على منحدر الأكروبول الذى كان يمر من الجزء الأعلى من الأديون تم دمجه بالمسرح و أُستخدم كممر على هيئة سلالم διαζωμαبعرض خمسة أمتار تقريباً، و تم بناء صف من المقاعد بعد هذا الممر. و تم تقسيم المكان الضخم المخصص للجمهور عموديا على شكل وحدات متداخلة κερκιδες) ) ، مع إثنى عشرة ممراً ضيقاً على هيئة سلالم أو مدرجات. و نقدر اليوم أن المسرح كان يسع ما بين 14 إلى 17 ألف مُشاهد .(133) و بين 67 مقعداً مرمرياً فخماً المخصصة للمسئولين الرسميين تم صيانة أكثرها ، على الأقل بصورة جزئية، بل بعضهم مازال فى أماكنهم.

و موقع خشبة المسرح المصممة من الخشب، صارت تصمم من الحجر. و على جانبى الجزء الأوسط الذى كان يحتوى على ثلاث أبواب، كان يوجد جناحين كبيرين على شكل ممرات مفتوحة و محاطة بالأعمدة، و كانت تبرز خمسة أمتار تقريباً و تمكِّن الشخصيات المسرحية التى تدخل من الممرات الجانبية من عبورها. و كان يوجد على كل جانب خارجى ربما بئر سلم يقود إلى الدور العلى أو إلى السطح.

و مازال هناك إختلافات كبيرة حول مدى و تاريخ هذة التغيرات. (135) و ما هو مؤكد، أن دراما القرن الرابع ق.م. تقتضى ضمناً أو تستلزم إمكانية التواصل الحُر فى ما بين الجوقة و الممثلين ، و هو واقعاً كان يعنى أن العرض المسرحى كان يُقدم كما كان عليه الحال فى العصر الكلاسيكى ، على خشبة مسرح مُسطَّحة و على نفس مستوى الأوركسترا و ليس من على خشبة مسرح مرتفعة بعض الدرجات. و هناك أسباب كثيرة تؤيد مثل هذا الرأى و كان للدراما الساتورية ، كما كان فى الماضى، شعبية كبيرة ‘ و هكذا نتساءل كيف تمكن الكورس الذى كان يشكِّل مركز العمل الدرامى ، أن يقوم بأداء دوره على مكان مًختلف عن مكان الممثلين. و من ناحية أخرى، كا يتم الإعلان عن أول دخول للكورس فى مسرح ميناندروس فى نهاية أول مشهد بطريقة مبتذلة و تقليدية . يرى أحد الممثلين مجموعة من السُكارى المنتشية ( شكل ديونوسى تقليدى قديم) و يقرر ترك خشبة المسرح ‘ و هذه الحالة لها معنى ما ، و هو أن الكورس و الممثلين يتحركون على نفس المستوى. وعنصر إضافى يقدم لنا أحد المقتطفات لكوميديا لميناندروس " ثيوفورومينى" Θεοφορουμενη، الذى فسره الباحثA. Lesky مدعماً أنه هنا كانت الممثلة الأولى أى البطلة تدخل مندفعة على الأوركسترا راقصةً بشكل فيه تجلى و إندماج كامل مع الدور الذى تؤديه . (136)

الإصلاحات الفعلية الكاملة للمعمار المسرحى تم لأول مرة فى العصر الهيلينستى، حوالى عام 200 ق.م. ، عندما تم بناء أساسات مدعومة بالأعمدة ، مترين أمام مقدمة خشبة المسرح، كان مخصصاً لمنصة مرتفعة λογειον و تُسمى بروسكينيوπροσκηνιο.(137) و أصبحت الأجنحة الجانبية أصغر، لأنها فقدت وظيفتها، التى كانت إحتضان و إحاطة مجال رؤية المشاهد للفعل الدرامى على الأوركسترا . وأعمدة البروسكينيو التى كان إرتفاعها ما بين ثلاث إلى أربعة أمتار فوق سطح الأوركسترا، كانت تُقدم إنسجاماًً و توافقاً فى الشكل و فى الأبعاد مع أعمدة البراسكينياو ذلك كى تخلق صورة معمارية متآلفة . و من الآن أصبح الدور الأعلى لبناء خشبة المسرح يكِّون الخلفية المسرحية . و كان الجدار البسيط قد إقتصر دوره على مجرد إطارلثلاث فتحات كبيرةθυρωματα ، خُصصت لوضع لوحات رسم كبيرة، التى كانت تسيطر على مجال رؤية المشاهد.(138) و كان هناك مدخلين على الجانبين يقودان إلى إلى مكان الفعل الدرامى التمثيل .

إن بناء مثل هذه البروسكينيو المرتفعة جداً يشير بوضوح كيف أن الدراما قد تغيرت بصورة كبيرة جداً مع مرور الوقت. كان الكورس منذ وقت ينشد فقط بين الفصول ، و لم يكن له أدنى علاقة بالفعل الدرامى ،(139) بينما فى المقابل تم الكشف عن الموهبة الفردية فى التمثيل و فى الأغنية . و هذا يعنى أن الدراما قد خسرت تدريجياً دورها الدينى و اكتسبت وظيفة اللهو و التسلية. النتيجة التى لا مفر منها لتحول الثقل هذا إلى جانب التمثيل صاحبه تغيير مماثل على الشكل المعمارى لخشبة المسرح.

و قد تغيرت جذرياً فى نفس الوقت صورة و طبيعة العرض المسرحى . فقد اكتسبت الأحداث على الأوركسترا مرونة كاملة و قابلية للتكيف، و تابعها الجمهور كما لو كان يوجد فى وسطها و عضو من جماعة الممثلين ‘ و على العكس من ذلك ، فقد كان الفعل الدرامى الذى يدور على خشبة مسرح مرتفعة يبدو منعزلا و به بعض الفتور بالنسبة لعلاقته بالجمهور( كما هو عليه الحال فى مسارحنا) ، فالتجاور المباشر و الإقتراب الذى حدث بين الجمهور و الممثلين نتج عنه و بشكل حتمى عرضاً مسرحياً حيوياً و مريح و تغير بلطف من الرتابة الحادة إلى الألفة و التناغم مع الجمهور.

و الباحث الحديث يرى حطام مسرح ديونوسوس بصفة عامة بالرداء الرومانى .(141) فالتجديدات التى بدأت من عصر نيرون ووصلت إلى نهاية القرن الثلث نعد الميلاد، كانت لها صلة بخشبة المسرح و الأوركسترا فقط. و عكست بوضوح بإحتياجات العصر : فقد قدمت العروض الدرامية و الحفلات الموسيقية فرصة نادرة جداً من أجل أى تجمع على المسرح ‘ فقد تحولت الأوركسترا إلى حلبة مُصارعة و مبارزة وقتال وحوش، و فى النهاية إلى حوض مياة لعروض الميموس.(142)

ويمكن تحديد بداية المرحلة الرومانية فى تاريخ المسرح الديونوسي بدقة بفضل نقش تذكارى. ففى عام 61 بعد الميلاد ، أهدى Claudius Noviosأحد اليونانيين المولود فى روما، واجهة معمارية جديدة لخشبة مسرح (scaenae frons (، على الطراز الرومانى . و بالتأكيد ظلت أجزاء قديمة من البراسكينياعلى حالها سليمة بعد الإصلاح و أدمجت فى البناء المعمارى الجديد . و قد تم إستخدام هذه الأجزاء كقواعد لتمثالين كبيرين ( تراجيدى أو كوميدى؟) ، وجدت أثارهما أخيراً . هذه المقدمة أو الواجهة كانت شيئاً أكبر من مجرد تكيف معمارى مع متطلبات العصر الجمالية الجديدة ‘ لقد كانت تعبير عن التغير العميق الذى حدث فى المسرح. بينما كان الجدار البسيط الذى تم إضافته فى العصر الهيلينيستى مع إطارات أبواب يكِّون فى الواقع أساس لوضع لوحات زخرفية ضخمة ( لوحة رقم 3"2") و لعبت دوراً مهماً فى العروض المسرحية ، والواجهة المعمارية الجديدة لخشبة المسرح ذات الطابقين ، التى تجاوز عرضها أربعون متراً ، تقدم لنا تقريباً بناءا فخما مبالغ فيه ، و ذلك بسبب وجود البهو ذو الأعمدة و القوْصَرًة المثلثة أعلى المبنى ) aediculae ) ، و يوجد خلفة أبواب تقود إلى الداخل( لوحة 13 1)

و مع ذلك فإن الأعمدة الموجودة أمام الجدار أعاقت إماكانية وضع لوحات زخرفية ، وذلك لأنها كانت سوف تلغى الإنطباع الجمالى للخلفية المعمارية. فالفن المعمارى المحايد الذى أهتم بالزخرفة و الفخامة كهدف فى حد ذاته ، قد أزاح فى النهاية فكرة وضع اللوحات . و يمكن أن نستنتج من هذا أن أنشطة جديدة كانت تُقدم على خشبة المسرح جعلت الدراما تفقد أهميتها و تتراجع أكثر فأكثر من حيث شعبيتها . وتم تقديم العرض على منصة مرتفعة و بارزة إلى الإمام ) pulpitum ( .

ليست هناك تعليقات: